عن ”السيدة” وحبايبها
الأكثر مشاهدة
سمر حسن- هدير حسن- ندى بديوي
"السلام عليكم يا أم.. السلام يا حبيبتي ومعشوقتي.. يا أم الحنان" تمتمات بالسلام تنادي على السيدة زينب، تستأذنها في الدخول إلى مقامها القابع داخل المسجد الذي يحمل اسمها، داخل الحي الذي عُرف بها.
ما إن تهبط الدرجات الأولى للولوج إلى ضريح السيدة زينب، ينتابك إحساس بالأمان ويغمرك اليقين من حيث لا تدري، وأن ما ترغب في تحقيقه ستلقاه. هذا الشعور مُحمل بنسائم بركة آل البيت الذين كانت كل خطوة لهم على أرض مصر محل احتفاء وتقدير، مما جعلنا أهل المحروسة موضع تساؤل في كوننا نقع بمنزلة عجيبة من أهل الإسلام فنحب آل البيت بما يشبه الشيعة أو يفوقهم، ونُجل صحابة رسول الله جميعًا أيما الإجلال كأهل السنة.
حب أهل مصر للنبي وآل بيته واضح وجلي، فما إن تذكر اسم "السيدة" في مصر حتى يعرف الجميع أن المقصودة هي السيدة زينب حفيدة رسول الله من ابنته فاطمة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب. ورغم اختلاف المصادر التاريخية حول مكان وفاة السيدة زينب بين مصر والشام، وكون المقصودة هي زينب التي يعود نسلها إلى الحسن بن علي وليست زينب بنت علي، إلا أن ذلك لم يمنع المصريون يومًا من زيارة مقامها والتبرك بها ورفع أكف الضراعة بجانب شباكها.
لا يعرف كثيرون عن كون السيدة إحدى أبرز النساء ثورية في تاريخ الإسلام، فضلًا عن شجاعتها وجلدها الذي أضحى مضربًا للأمثال، فقد برزت هذه الصفات في موقعة كربلاء بعدما رافقت أخيها الحسين في تحركه مع نفر قليل من أتباعه للجهاد ضد يزيد بن معاوية، فشهدت أحبتها يقتلون ونظرت رأس أخيها سيد الشهداء على رمح كذلك ولديها محمد وعون، وسيقت حفيدة رسول الله مع السبايا من النساء إلى قصر أمير الكوفة ومن بعده يزيد بن معاوية، وقفت تخطب فيهم بفصاحة ورباطة جأش، فيروى أنه حين قال لها ابن زياد أمير الكوفة:" كيفَ رأيتِ فعلَ اللهِ بأهلِ بيتكِ ؟!" فقالت: "ما رأيت إلاّ جميلاً. هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم...".
عودتها إلى المدينة المنورة مرة أخرى كانت مصدر قلق للحكم الأموي فقد كانت بمثابة مركز إعلامي يبُث ما حدث مع آل بيت النبي فتشعل الأنفس الغيورة وتألبهم على حكم الطاغية، فكان من يزيد أن أمر بتركها للمدينة، فاختارت مصر.
جاءت السيدة زينب لمصر بصحبة بنات الحسين واستقبلها أهلها بالزغاريد كما تقول صفحات التاريخ، ولم يعرف أهلها طريق للخوف من الخليفة عندما تعلق الأمر بأحبابهم من آل البيت. وبعد فترة من إقامتها بمصر توفيت ودفنت في مقام تحول إلى مسجد ومزار إسلامي هام يتوافد عليه المسلمون من مختلف الأنحاء. وكنا نحن جزء من أولئك القادمون إليها.
ياسيدة يا زهرة الهادي راضينا، يا شريفة العقائل، يا أم المكارم والفدا، يا أم البشاير والمدد"، ازدحام نسائي قبيل فتح المقام، تزايد بعد أن عرفن أنه يجري تغيير "الكسوة"، يصطفون في طابور من أجل أن تنال كل منهن شرف رؤية تغيير "كسوة" مقام "أم العواجز"، حاولن جميعًا النظر من النافذة المطلة على مرقد السيدة، ثم تتعالى أصواتهن راجية تجزئة الكسوة وتوزيعها على المحبين "والنبي هات حتة من كسوة ابنة بنت النبي، بنتي تعبانة بقالها 10 سنين ومش لقيين لها علاج"، هكذا تعالت الأصوات ممزوجة بهمهات المريدات المنبعثة من وجوه متعلقة برئيسة الديوان، ليكلل المشهد بالزغاريد التي وصل صداها إلى جميع أركان المسجد وهن منتظرات فتح الباب ليدخلن إليها ويلمسن الكسوة المعبقة بالبخور، ويتمسكن بالمقام المزين بالأقمشة البيضاء والتل والورود البلاستيكية .الملونة، المحاط بمقصورة من النحاس تعلوها قبة صغيرة من الخشب أسفلها الشبابيك المفرغة المحلاه بالزجاج الملون
.ثم فُتح المقام فوجدنا على يسارنا مرقد سيدي محمد العتريس، شقيق سيدي إبراهيم الدسوقي، داخل واجهات زجاجية يحاول الوافدون أن يخترقونها بنذورهم وأمانيهم، فتحوطه من جميع الاتجاهات صور لأشخاص ومعها نقود من فئا مختلفة، ومحملة بالرسائل والأمنيات، وقفت بجوارنا شابة وضعت صورتها وصورة من تحب أملًا أن يجتمع شملهما يومًا.
تبدو النذور حيلة كي يحصل الأشخاص على ما يريدون، ولكن بالنسبة لأحباب السيدة، الدعاء والتمني ليس فقط رغبة في إجابة التساؤلات، ولكنها طريقة للقرب والوصال، فمع الخطوات الأولى للوصول إلى ضريح السيدة زينب تصل إلى أذنك كلمات الحب والعشق، فهي الملجأ لكثيرين يبحثون عن الراحة من الهموم الدنيوية...
آتيات من كل حدب وصوب، لوجة واحدة، يستقبلهن الضريح، يحاولن لمسه، يتمتمن بما في صدورهم عله يصعد إلى السماء، يقفن ليمدحن صاحبة المكان "تقوم تجافي النوم وهي صغيرة إلى ربها في ليلها تتقرب.. فتمنو عليها أمها وتضمها إليها سرورًا والملائكة ترقب.. وهل خلق الرحمن أما كأمها فمن ذا يدانيها ومن ذا يقارب".
حينها تدخل عجوز ضئيلة الحجم بين الحشود، تدخل إلى أعماق المقام وتجلس بالداخل، تردد مدائح في النبي وآل بيته الطاهرين بصوتها الجميل، فتهرع إليها أم شابة جاءت من الهرم تحمل رضيعتها التي لا تتوقف عن الصراخ أملًا في أن ترقيها ببركة حضور السيدة زينب، وما إن تمسك العجوز الطفلة وتهدهدها وهي تتلو آيات من القرآن بمخارج واضحة وتلاوة عذبة حتى تهدأ الرضيعة ثم تذهب في النوم.. هذا يحدث في خيال مخرجي الأفلام وفي السيدة زينب أيضًا.
تكلمنا مع العجوز التي ترفض التصوير قائلة "أنا مش بتاعت الحاجات دي" وعرفنا أنها قادمة من بني سويف خصوصًا لزيارة السيدة زينب والسيدة نفيسة، لها من اسمها نصيب فهي "سميحة" وتطل السماحة من وجهها الذي تزينه ابتسامة خالية من الأسنان، تربت "الست سميحة" بجوار مقام السيدة حورية ابنة الحسين ببني سويف، فحفظت القرآن والمدائح دون أن تتعلم الكتابة والقراءة، وظل قلبها معلق بزيارة آل البيت طوال سنوات عمرها التي تجاوزت السبعين.
""روح يا نسيم روح بالسلام.. على الحبيبة بنت الإمام" تغنيها أم أميرة، وتردد وراءها السيدات الجالسات في حضرة السيدة "الله الله"، فقد اعتادت المرأة، التي قاربت السبعين، أن تزور السيدة كلما تثنى لها بعد أن ورثت محبتها عن والدتها، ولا تاتي بيد خالية ابدًا، فلابد أن يكون هناك "نفحات" للزوار لا يجوز أن يردوها، وتحثهم على الدعاء والتمني فالسيدة تسمع وتدعو الله لهم.. قبل أن تغادر أم أميرة تخبرنا أنها ذاهبة للطبيب وتدعونا أن نقرأ معها الفاتحة استبشارًا بالشفاء، فنفعل.. هناك الجميع يرى النور فيمن حوله حتى وإن لم يعرفهم.
الكاتب
احكي
الأربعاء ٢٢ فبراير ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا