من أروقة الصحافة إلى الحقل الأكاديمي تعبر ”سعدي” بأحلامها
الأكثر مشاهدة
حددت هدفها منذ نعومة أظافرها، عملت جاهدة لبناء خطوات حلمها، اتخذت من التحدي ركيزة لتحقيق ما تسعى إليه، منحت جل وقتها لمهنة البحث عن المتاعب، فعززت الهواية بالعلم، اقتحمت ميدان يصعب على النساء دخوله فأصبحت مراسلة عسكرية تنتقل من تغطية حرب البوسنة والهرسك إلى الوجود في ميدان الحرب العراقية،لم تؤمن إلا بالمهنية، عرفت بمواقفها الصارمة فعندما خالفت النقابة مبادئها تركتها خلف ظهرها موجهة بوصلتها نحو الحقل الأكاديمي والعبور بين الحدود لمنح تدريبات السلامة المهنية فهي أسوانية الأصل "عبير سعدي".
نداهة الصحافة تجذب ابنة الجنوب
من رحم أسرة صعيدية، ومن أقصى الجنوب، خرجت الفتاة التى تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة، ورغم وجود شقيقين، علق والديها عليها الكثير من الآمال ولم ينحياها؛ كونها طفلتهما الأولى. قضت جزء من طفوتها بالمملكة العربية السعودية، وعندما عادت إلى القاهرة لم تعرف سوى أسرتها الصغيرة، وعقب التحاقها بالمدرسة، أتت اللحظة الحاسمة التي حددت مسار حياتها بالكامل، عندما وجه لها سؤال من قبل مدرستها عن المهنة التي تتمنى أن تعمل بها لاحقًا.
"عايزة أطلع جورنال"، بتلك الكلمات أجابت الطفلة الخجولة ذات الأربع سنوات آنذاك ؛ "عبير السعدي"، والتي كانت تخشى مواجهة من حولها، وسرعان ما امتلأ الفصل بضحكات زملائها فور إجابتها التى جاءت مغايرة تمامًا لكل الإجابات والمهن التقليدية التى ترتبط دومًا بهذا السؤال، ما ترك أثره في نفس الصحفية التي أصبح اسمها الآن ملء السمع والبصرجلست معها معلمة الطفولة في حديث فردي لتلقنها ما وصفته لاحقًا بــ "أول درس صحفي في حياتي"، إذ تعرفت من خلالها على الصفات التى لابد توافرها فيمن يرغب في العمل بالصحافة، وكان من أهمها أن تصبح شخصية اجتماعية، وتنخرط في الحديث مع من حولها، وتتخلص من خجلها.
توالت المعلمات الملهمات على حياة "سعدي"، فالتقت في المرحلة الثانوية بـ "ميس اعتدال"؛ مدرسة التاريخ التي كان لها أبلغ الأثر عليها، أثر ظهر جليًا في النبرة الهادئة المفعمة بالحب والحنين التى تحدثت بها عنها وعن لتهنئة التي تلقتها منها عقب فوزها بعضوية مجلس النقابة عام 2007، ووصفتها بأفضل تهنئة تلقتها، لافته إلى أن العلاقة بينها مازالت مستمرة حتى الآن.
الإذاعة المدرسية:العمل الصحفي الأول
أخذتها نداهة الصحافة منذ الصغر، فكانت الإذاعة المدرسية أول عمل حقيقي لمدربة السلامة المهنية، ثم فتحت دورة الألعاب الإفريقية الخامسة باب التطوع، فرافقت الوفد النيجيري وهي تبلغ من العمر 15 عامًا فقط، ولفتت خلال حديثها مع "احكي" على أن تمكنها من اللغتين العربية والإنجليزية، مكنها من الالتحاق بالدورة التي لامست بذرة حب العمل التطوعي التي كانت في طورالنمو بداخلها حينذاك، فغطت العديد من المؤتمرات كمتطوعة، أبرزها المؤتمرالعالمي للسكان.
عادت الصحافية الجنوبية الأصل بالذاكرة إلى الخلف، وروت لنا بنبرات مختلطة بحنين الذكريات بداية مشوارها داخل أروقة المؤسسات الصحفية، الذي بدأت بمؤسسة روز اليوسف، والاختبارات التي خضعت لها من قبل كبار الصحفيين، وتم قبولها بها، لافتة إلى أنها في بعض الأحيان "حاولت أظهر كبيرة السن عشان أتقبل" .
التدريب في "الأهرام" والسعي لـ"أخبار اليوم"
ثم أتت محطة تعزيز الهواية بالعلم، فالتحقت بقسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة ، ووضعت نصب أعينها أكبر مؤسسة صحفية آنذاك من خلال متابعتها لمجلة الشباب الصادرة عنها، وعلمت أنها لن تستطع الدخول إلى مؤسسة "الأهرام" إلا من خلال صاحب القلم الرحيم، الراحل "عبدالوهاب مطاوع"، فذهبت إليه دون اللجوء إلى واسطة، ، بدأت الحديث مع الصحفي القدير بقولها:"عايزة أغير المجلة"، فلم يكن منه إلا أن أخبرها أنها ستعمل بها وستحصد العديد من الخبرات، وهو ما تحقق لها طوال سنوات دراستها حتى تخرجت.
"كان في قلبي دايما أخبار اليوم".... كانت مؤسسة أخبار اليوم دائما أمام عينها، لحبها الشديد للمدرسة الصحفية التي تنتمي إليها، وكانت ترى في شخصية مؤسسها "مصطفى أمين" قدوة كبيرة، لذا حولت دفتها بعد التخرج من "الأهرام" إلى "أخبار اليوم"، وتم تعيينها بها في الأول من مارس عام 1998،رغم صغر سنها،ولكن عملها بالصحافة لستة سنوات سابقة ذلل لها الصعاب، وهو ما بررته وعبرت عنه قائلة : "دايما بكون سابقة بخطوة ومبستمتعش بمراحل مهمة كالطفولة والشباب".
على خط المواجهة
"مابخافش غير من ربنا"، ذهبت "سعدي" إلى ميدان صحفي يخشى منه الكثيرين، فأصبحت مراسلة حربية، وغطت حرب البوسنة والهرسك في التسعينات، ثم حرب العراق عام 2003، وخلال تغطيتها للحرب لفتت إلى أنها عملت في صحيفة "التايمز" البريطانية، ومكنها لغاتها الأربع (العربية-الإنجليزية- الفرنسية- الإسبانية) حينها من العمل في الصحف العالمية.
علامات السماء
"حياتي كلها رسائل من ربنا"، عادت "سعدي" بنا وبالزمن لـ 15 عامًا مضت، وروت حكايتها مع الآية القرآنية من سورة "البقرة"، "وَعَسَى أَنْ تُحِبُّواشَيْئًا وَهُوَ شَرٌّلَكُمْ"، وقالت أن في عام 2003 فاتتها فرصة الحصول على منحة "تشيفنينج" –برنامج المنح الدولية للحكومة البريطانية- وحزنت على ذلك لأن العمل في مقر الأمم المتحدة يشترط الحصول على تلك المنحة، ثم أثناء تغطيتها لحرب العراق 2003، علمت أن زميلتها الصحفية الأردنية "رهام الفرا"، والتي حصلت على المنحة توفت في الإنفجار الذي وقع بمقر الأمم المتحدة في العراق، وأدركت معنى الآية آنذاك.
حلم النقابة منذ نعومة الأظافر
تحدثت بشغف المحب عن نقابة الصحفيين وجولاتها الانتخابية بها وبداية تعلقها بالمبنى العريق، حيث روت لنا : "كنت بزور خالي في وسط البلد وأنا في آخر سنة في إعدادي وعديت على مبنى النقابة وطلبت من والدتي أني استناها هنا في النقابة"، أبهرها المبنى العملاق منذ صغرها وحلمت بالانضمام إليها، ومكنها التميز في عملها بمؤسسة أخبار اليوم من الحصول على عضوية النقابة، وقررت من تلك اللحظة أن تكون عضوًا فاعلًا.
خاضت انتخابات النقابة عام 2003، وحصلت على 535 صوت، وهو ما اعتبررقمًا قياسيًا حينذاك، وفي عام 2007 حصلت على الترتيب الثالث من حيث عدد الأصوات. كان فوزها بالانتخابات بالنسبة لها"بمثابة عودة المرأة للنقابة"، واختارت طالبة الدكتوراة الحالية ملف تطوير المهنة والتدريب لتتولى مسؤوليته عقب فوزها، وبدأت في الدورات التدريبية من أجل رفع الكفاءة المهنية.
وأثناء حديثها عن هذه الفترة المفعمة بالنشاط تذكرت الطفلة الخجولة التى أبقت عليها بداخلها، مبينة أنها نجحت في تطوير شخصية أخرى اجتماعية، وتذكرت كذلك الكاتب الصحفي ووكيل النقابة السابق "رجاء الميرغني" الذي علمها مبادىء العمل النقابي، وعلى رأسها مبادىء التواجد الفعلي، والوقوف إلى جانب الصحفيين دون النظر إلى الانتماء العرقي والديني والسياسي، وضرورة أن تكون المنطلقات مهنية وليست سياسية، مبررة ذلك بأن "السياسة ليها ناس كتير تتكلم فيها لكن المهنة ملهاش ناس كتير، والمهن تتعرض للعديد من التحديات".
النقابة نافذة يطل منها الجميع
"إذا كانت الجمعية العموية سمحت بنافذة واحدة لأطل منها على 12 عضو، فأنا كعضوة سيطل معي كل الشباب وكل النساء،ومقعدي في النقابة مقعد للجميع"، هكذا لخصت قواعدها النقابية في تلك الفقرة، وانتقلت بالحديث عن الثمار التي جنتها من تولي ملف التدريب، وتمثلت حسب قولها في تدريب أكثر من 4800 صحفي وصحفية سواء كانوا نقابيين أو غير نقابيين، مضيفة : "عمري ما بقفل رقم تليفوني وكان يأتي لي اتصالات في الرابعة فجرًا، وكنت أتحرك على إثرها مباشرة".
ثورة 25 يناير ومحطة الاستقالة الأولى
بالتزامن مع اندلاع ثورة 25 يناير، أنشأت "السعدي" غرفة عمليات نقابة الصحفيين في ميدان التحرير من أجل حماية الصحفيين، وقد كانت الأقدر على إدارة تلك الغرفة، لما حصلت عيه من دورات متعددة في مجال السلامة المهنية. وتماشيًا مع المزاج الثوري العام حينها، تقدمت باستقالتها للنقابة، لإعادة الانتخابات مرة أخرى، فحصلت على 1700 صوت بفارق 400 عمن يليها، وهو ما علقت عليه بقولها: "انتهت فكرة الجندر منذ عام 2011، وسقط معيار النوع الاجتماعي"، فكونها امرأة لم يعق وصولها إلى منصب وكيل نقابة الصحفيين في نوفمبر 2011، وكانت أول امرأة تصل إلى هذا المنصب.
2014 محطة الاستقالة الثانية
عقب تولي مراسلة الحرب هذا المنصب عادت إلى العمل بقوة في العمل النقابي، ولكن ما وصفته بـ "مشوار الدم" كان أقوي حسبما قالت، إذ أن وفاة عدد كبير من الصحفيين والمظالم التي تعرض لها بعضهم من فصل وحرمان من الحقوق وغيرها، أثر سلبًا على حالة الأمل التي كانت تدير بها عملها، مما دفعها لإصدار بيان بعنوان "قبل أن يفوت الأوان" لتجميد عضويتها، انتقدت فيها الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون وجمدت عضويتها 2014، والتي طالها بعضها بعد هذا البيان، فبدأ النقيب وقتها في اتخاذ الإجراءات القمعية ضدها، ووصل الأمر إلى انتشار شائعة ضدها بأنها غادرت البلاد، وتوجهت للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية مقابل راتب قيمته 100 ألف دولار، وهو ما ردت عليه مؤكدة استمرارها في عملها بمؤسسة "أخبار اليوم" لمدة ثمانية أشهر بعد تجميد العضوية ،حتى أعلنتها أمام مجلس النقابة قائلة: "أنا هخرج من الباب دا ومش هدخله تاني".
استراحة محارب والانتقال إلى الحقل الأكاديمي
منذ عام 2003، بدأت "السعدي" في البحث بين أحلامها القديمة، وتوقفت أمام الحلم الأكاديمي، وعزمت على استكماله، فبدأت خطاها الأولى به بالتقدم لمنحة "تشيفننج" التي تحدثت عنها آنفًا، ثم عادت مرة أخرى إلى الحلم ذاته عقب أزمة النقابة، وبدأت في خطوات فعالة أثمرت عن حصولها على درجة الماجستير عام 2014 من جامعة "ويستمنستر" البريطانية، وهو ما علقت عليه بقولها : "أول مرة من فترة طويلة بدأت أتعلم بعد ما كنت بعلم وأدرب"، وأردات أن أتخصص في حقل الإعلام والتنوع"، وأضافت إن حفظها للقرآن الكريم، وقراءة الإنجيل بنسختيه القديمة والحديثة، والتحاقها بمدارس الراهبات في صغرها، عزز بداخلها قيمة التنوع وتقبل الآخر، فليس غريبًا أن تختار "تنظيم داعش" ليكون موضوعها البحثي في رسالتها للماجستير، فقتل التنظيم لزملائها الصحفيين؛ الأمريكي "جيمس فولي"، والياباني "كينجي جوتو" كانا من أهم دوافع "سعدي" لدراسة إعلام التنظيم، وتُوج مجهودها بالحصول على درجة امتياز وتكريمها عن الرسالة التي خصصت الإهداء في بدايتها لأسرة "جوتو"، وهي المحطة التي تعتبرها أهم لحظات حياتها التي شعرت خلالها بفخر دفعها لرفع علام بلادها حينها.
ورغم الصعوبات التي واجهتها في دراسة الماجستير، لم تتراجع عن قرارها بمواصلة المشوار الأكاديمي، والبدء في الدراسة مجددًا للحصول على درجة الدكتوراة التي ستتناول فيها التنظيم ذاته، وسبل جذبه وتجنيده للشباب، وقد رفعت هذه المرة الرهانات، فاختارت جامعة ألمانية رغم عدم معرفتها باللغة الألمانية وهو ما فسرته بقولها: "قررت أرمي نفسي في البحر الجديد لأني بحب التحدي"
الاستثمار في المرأة استثمار مضاعف
ولدى سؤالها عن الوضع الإعلامي في مصر، رأت "سعدي" أنه يمر بمرحلة في غاية الصعوبة، ولاسيما الصحافة الورقية، ولفتت إلى أن نتائج هذا الوضع تقع غالبًا على كاهل المرأة من خلال استغناء المؤسسات عن الصحفيات مقابل الصحفيين، ومناشدة بدعم المرأة والتمعن في الإنجازات التي حققتها المرأة في القطاع الإعلامي، والمثبتة بالأرقام والإحصائيات، فالعنصر النسائي يمثل 46%، ونسبة النساء في قطاع التلفزيون مرتفعة، ورغم ذلك لفتت السعدي إلى أن عدد النساء في مواقع المسئولية والترقي منخفض، مدللة بالانتخابات الأخيرة في نقابة الصحفيين.
"الاستثمار في البشر هو أحسن أنواع الاستثمار، والاستثمار في المرأة هو استثمار بشكل مضاعف"، هكذا لخصت أهمية منح فرص متساوية للنساء، ولتحقيق ذلك وضعت "سعدي" في معرض حديثها، مجموعة من القواعد لبلوغ هذا الهدف، منها قائمة تحقق من التنوع ووجود العنصر النسائي في صالات التحرير، وتحقيق التوازن بين المصادر في الموضوعات الصحفية. ولفتت إلى أهمية التوسع الأفقي والرأسي لتناول قضايا المرأة، فلابد من تناوله في المواقع المتخصصة والمواقع الشاملة.
تكليل المجهود
شملتها قائمة أبطال الإعلام المائة، دعيت مرتين من قبل منظمة الأمم المتحدة عام 2014، وأصبحت شخصية أممية،قدَّمت دورات تدريبية في مجال السلامة لفائدة الصحفيين العاملين في مناطق النزاع بكل من مصر وليبيا وسوريا وتونس واليمن والعراق وتركيا والأردن والبحرين وأوغندا ونيجيريا، فدربت جميع الدولة العربية وبعض الدول الإفريقية، كُرمت من قبل مراسلون بلا حدود، كما حصلت على عضوية الاتحاد الدولي للصحفيين في عام 2015.
ماذا لو؟ أو what if practical safetymanual for journalism”"،اختتمت السعدي حديثها عبر الانترنت مع "احكي" بالكشف عن كتابها الأخير المتعلق بالسلامة المهنية للصحفيين، والتي تطوعت بكتابته عن كيفية تعامل الصحفيين في تغطية أماكن النزاع، وتسعى لتحويله إلى أحد أشكال تطبيقات الهواتف النقالة لتزويد الصحفي/ة بالمعلومات اللازمة والإجابة على كافة استفساراتهم أثناء تواجدهم بأماكن التغطية.
الكاتب
سمر حسن
السبت ٠١ أبريل ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا