دكتوراه في الحقوق حلم ”منى” ومهنة ”سايس” باب الرزق
الأكثر مشاهدة
تصوير :مريم عبدالهادي
مهنة خرجت من رحم زحمة الشوارع المصرية، يوصف من يمتهنها بالبلطجي والخارج عن القانون، وتمثل للبعض الآخر المنقذ، يسيطر على امتهانها الرجال، ولكن في مشهد غير مألوف في إحدى الميادين الحيوية في منطقة المهندسين، تجوب امرأة الشارع بسرعة فائقة تحير العين لالتقاط مكانها، تمسك بيدها اليمنى فوطة واليد اليسرى قفصًا خشبيًا، وبصوت يفوق مكبر الصوت "هنا يا أستاذة ...حضن هنا ياأستاذ".
"منى أمين" امرأة بدرجة "سايس" ترجع جذورها إلى محافظة سوهاج، ولكنها قاهرية المولد، لم يحالفها الحظ على إتمام شهادتها في جامعة الأزهر، ونتيجة الظروف الحياتية بدأت طريق العمل منذ الثانوية العامة " كنت بقف في صيدلية"، وتزوجت وهي صغيرة السن، وما زال القدر يعاندها رحل زوجها عام 2008 وترك لهل طفل وطفلة.
وجدت المرأة التي تعود جذورها إلى الجنوب وحيدة، لا تملك جنيهًا، وبعد مشوار البحث عن عمل يتناسب مع مؤهلاتها لم تجد أي مفر سوى وراثة عمل زوجها وتعمل "ركينة" في إحدى الميادين الهامة لمدة تصل من 10 إلى 12 ساعة يوميًا
تمسك السيدة الأربعينية بين قبضة يدها فوطة مبللة، وتهرول نحو السيارات وتقوم بتوفير مكان انتظار مناسب، الذي يستوعب أكثر من مائة سيارة، إلى جانب ذلك تتضمن مهامها حماية السيارات بكل ما تحتويه، ووتنوع الفئات التي تتعامل معها البعض يركنون سياراتهم والبعض الآخر يترك لها المفاتيح "الرجالة بيعرفوا يركنوا أكتر من الستات" بابتسامة تملأ بشرتها داكنة اللون وبنظرة عين لا تتوقف عن البحث شرحت مهارات الركن بين الرجال والنساء "الرجل لو مبيعرفش يركن مبيعترفش لكن الست لو مبتعرفش بتقول وبتسيبلي العربية كلها".
لم يتوفر من يومها من سوى 12 ساعة تقريبا مقسمة بين واجباتها المنزلية تجاه ابناؤها وتعليمها المفتوح في عامها النهائي بكلية الحقوق جامعة القاهرة، حيث اختارات تلك التخصص نتيجة القهر النفسي الذي تتعرض إليه بشكل مستمر من الشارع وأقسام الشرطة، الذي تتردد إليها باستمرا، فأرادت أن تعرف حقوقها وواجباتها فاتجهت نحو الدراسة "بيقلي أنتي شحاتة أنتي بتعملي أيه غير الشحاتة" فهي تعترض على وضعها في كافة المجرمين من قبل الحكومة.
"فيه ناس كتير بتبصلي أني أنا بلطجية ومش بقدم خدمة"، تحدثت عن نظرة الناس إليها على مدار اليوم الذي ينتهى الثالثة فجرًا خلال، فتتنوع ردود الأفعال التي تتعرض إليها بين الجيدة والسيئة، موضح السيدة الأربعينية أنها لم تجبر أحد على دفع شىء فمن يدفع تشكره ومن لا يدفع لا تجبره "أنا بأدي خدمة ومش بطلب من حد يديني فلوس، كل اللي بطلبه المعاملة الطيبة"، في حين أن باقي زملاؤها يفرض تعريفة من 10 إلى 15 جنيهًا يوميًا.
مبررة اختياراها لهذه المهنة "بجيب لقمة عيشي بالحلال" ، وتصفها بأنها خارجة عن إرادتها فوجدت نفسها منذ 10 سنوات بلا دخل بعد وفاة زوجها ولم تجد سند مادي من قبل الدولة ولا عائلتها فلم يكن أمامها بديل سوى هذه المهنة التي لم ترضى يوم عنها " أتفرضت علي المهنة أنا مش حباها".
"المواقف كتير أوى أكترها تناكة البني آدمين اللي بتخليني أعيط كتير"، عبرت منى عما تحمله من قهر نفسي بسبب المعاملة الغير آدمية حسب وصفها، التي تتعرض لها على مدار اليوم من الشارع الذي لم يعرف سلطة، ويحتاج منها إلى قوة لا نظير لها للتعامل مع كافة الأنماط المختلفة بدءا من الشخص العادي انتهاءا بالشخص "السكران".
"كدا كدا فيه ظاهرة السياس" خلال حديثها مع (احكي) بحث عن حلول لمشكلتها، لافتة إلى أن ظاهرة "سايس السيارات" موجودة وصعب القضاء عليها وطرحت حل متمثل في الدفع إلى الحكومة مبلغ محدد بشكل يومي وتستفيد الدولة بالمبلغ الذي وصفته بالهائل، في مقابل مزاولة المهنة بترخيص،" تهمتي الوحيدة مزاولة مهنة بدون ترخيص".
"بنتي في مدرسة لغات، وهتبقى مضايقة وابني اللي في أولى ثانوي مبيجيليش هنا نهائيا"، القهر لم يطل "منى" من قبل المجتمع فقط ولكن من قبل أقرب الناس إليها متمثلا في الرفض التام من قبل ابناؤها لمزاولة ذلك العمل، الذي لم تقبله يومًا، بينما رغبتها في توفير حياة كريمة لابناؤها هو السبب الوحيد خلف استمرارها في العمل.
وعلامات حزن مخلوطة بنظرات تحدي "عايزاهم يبقوا بني آدمين محترمين محدش يقدر يقل قيمتهم"؛ ولذلك حرصت على تعلم ابنتها في مدرسة لغات وحرصها على اكتسابها مهارات الكمبيوتر من أجل تأهيلها لسوق العمل، وردت على المعارضة الموجهة لها من قبل عائلتها "أنا سيدة قرار نفسي محدش ليا كلمة عليا إللي بيدين يحاجة يمنعها".
حاولت الاحتماء خلف رجل بعد رحيل زوجها الأول فتزوجت من زميلها في العمل، ولم يدم زواجها سوى عامين وتم الطلاق، وقسوة الشارع أجبرتها على العودة له مرة أحرة "عايزة حد يقف معايا كحماية" لكن أتت الرياح بما لا تشتيه السفن، وكان بمثابة عبء أخر عليها ولم تجد حل سوى وسيلة "الخلع" فتحررت بعد قيد ثلاث سنوات.
الشارع لم يعرف قانون والدستور الذي يحكمه هو من الأقوى، فتتخفى منى طوال اليوم تحت قناع القوة في حين أنها تنهار من الداخل نتيجة الضغوط التي تتعرض إليها، واختتمت حديثها بحلم رغبتها في الوصول إلى الاحترام "هو إني أحس من جوايا أني محترمة ، المكان دا عملي قهر نفسي".
عدم وضوح الوجه بناء على رغبتها
الكاتب
سمر حسن
السبت ٢٢ يوليو ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا