”فريدة” بائعة الفاكهة منذ 45 عام.. تحلم بدار أيتام وتعشق ”شيكابالا”
الأكثر مشاهدة
على أحد جوانب ميدان الكيت كات، تجلس على كرسي خشبي مرتدية عباءة سوداء وتخفي شعرها الأبيض بمنديل، حولها تتراص الفاكهة، حسب الموسم، في صواني كبيرة، خلفها النيل وأمامها حركة الشارع والسيارات بالميدان المزدحم على الدوام. ينبئ وجهها بقوة وإصرار واجهت بهما الزمن الذي اعتاد أن يقهر "الغلابة"
قبل أن تقص حكايتها، قاطعها رجل خمسيني له لحية خفيفة، كان يجلس إلى جوارها "الست دي بتصرف على مدرسة مش عيل ولا اتنين"، إطراء وإشارة إلى ما تبذله السيدة، التي قاربت على السبعين، قابلته بابتسامة تحمل من الخجل والفخر الكثير.
ليست كمثيلاتها من البائعات، تقول اسمها بفخر "فريدة عبد الصمد"، ولا تخجل منه أو تعتبر أنه وصمة يجب أن تتوارى وراء اسم الابن الأكبر، أو الولد الوحيد، كما تفعل أغلب السيدات. تتذكر فريدة أحداث عمرها بالسنوات، فهي المولودة عام 1951، وتزوجت عام 1969، وتوفيت والدتها في 1985، وتركها زوجها عام 1993 وترك لها تربية الأولاد وذهب ليتزوج "واحدة من دور عياله"، تدرك هذه السنوات وتحفظها عن ظهر قلب رغم أنها لم تتعلم ولا تعرف القراءة أو الكتابة.
تعمل فريدة في بيع الفاكهة بمنطقة الكيت كات منذ أكثر من 45 عاما، كانت الابنة الوحيدة ضمن سبعة أخرين، التي تساعد والدها وتعمل معه، فالمهنة له بالأساس وورثتها عنه بعد وفاته "كان أبويا يصدرني لمشاكل التموين والبلدية"، مما أكسبها حنكة وفن التعامل مع من يعاديها أو يكيد لها "كنت بتعامل بالقوة وأعرف حركاتهم كويس.. عشان اللي بيبقى غلبان بيأكلوه".
تملك فريدة من الأولاد سبعة رحل منهم اثنين "أحن وأطيب اتنين هما اللي راحوا"، ما زالت تتذكرهما "بوسي ومحمد"، فكانا الأكثر مساعدة لها طوال مشوار عمرها، خاصة محمد الذي أعياها فراقه، فأصبحت لا تطيق أن تجلس بنفس المكان الذي اعتادت أن تبيع فيه الفاكهة في الميدان برفقته "بقيت بشوفه في كل حتة حواليا، ونفسيتي تعبت"، فقررت أن تنتقل إلى الجهة الأخرى من الشارع منذ رحيله في 2012، دون أن يغيب عنها في أي يوم، فتضع صورته كخلفية لهاتفها، وتتذكر أصغر التحركات التي كان يقوم بها، من جلسته وحتى حديثه وطريقته في احتساء الشاي، كما كان يكن لها حبا جعله يطلق اسمها على ابنته الوحيدة التي تركها وهي لم تكمل عامها الأول، متذكرة حين قال لها "عشان اسمك ميمشيش من الدنيا".
لم يكتف الزمن بأوجاعها، ولكنه يحملها ما لا يستطيع تحمله أحد، فرغم كبر عمرها الذي ينذرها بضرورة الراحة، فهي المسئولة والمعيلة لأولاد ابنها المتوفي، ومساندة بناتها وأبنائها الأخرين "الدنيا مش مساعداهم وأنا لازم أقف جنبهم"، كما تتولى رعاية أولاد ابنتها، التي تركت طفل في السادسة من عمره وأخته تصغره بعامين، وذهبت للزواج من آخر بعد غياب الأب.
"أنتي اللي بتكبرينا" يعي الطفل، الذي لم يتعد عمره السنوات الست، دور الجدة في تربيته، ويشعر نحوها بالامتنان، فهي تحرص على إلحاقهم بالتعليم، ومعاهد تحفيظ القرآن، رافضة أن تتخلى عنهم وتوكل مهمة تربيتهم إلى أعمامهم "دول أطفال مينفعش أسيبهم، ومش مستنية شكر من أب ولا أم.. ربنا هو اللي هيجازيني".
ورغم تعرضها لحادث أدى إلى كسر في الحوض، واضطرها إلى الاستناد إلى عكاز يساعدها في المشي والحركة، لأنها لم تعد تملك القدرة على المشي لمسافات طويلة، ما زالت فريدة تعمل لتعيل أسرتها الكبيرة دون راحة "أقعد إيه؟.. أنا بصرف على جيش"، فباتت تجلب الفاكهة إلى مكان "فرشتها" بالهاتف، فتجار السوق يعرفونها جيدا.
تقضي معظم أوقاتها بالشارع، فتأتي من منزلها الصغير ببشتيل إلى مكان "فرشتها" في الساعات الأولى للصباح، ولا تبرح مكانها قبل العاشرة ليلا، فهي لا تطيق الجلوس وحيدة لفترت طويلة، وفرض عليها الشارع طريقة حادة في التعامل مع المتطاولين "الست في الشارع لازم تكون أسد"، مفسرة أن التعامل بطيبة ورفق يجعل المحيطون يعتبرون السيدة غير قادرة على مواجهتهم.
"الست الجدعة متسكتش لأحد" وهكذا اعتادت فريدة، فالجميع لديها سواء، وتعامل الكبير قبل الصغير بندية، وتعرف الطريقة المناسبة التي تجبر بها أي متطاول على الوقوف عند حده، "أنا مرة ضربت مسئول كبير عشان عاوز يشل فرشتي"، فهي لا تملك الاستعداد لإهانة كرامتها أو التذلل لأحد.
مع حلول المساء، تقوم يوميا بتشغيل جهاز تلفزيون صغير ليؤنسها في يومها، وتشاهد من خلاله نشرة الأخبار ومباريات الزمالك، فهي عاشقة للنادي "الزمالك أحسن.. وأحب أتفرج على شيكابالا.. بعشقه"، وتصر على تشجيع النادي حتى وإن لم يبق منه سوى السور، وكانت تعتاد قديما على حضور مبارياته في الاستاد.
تحلم فريدة أن تُنشئ دارا للأيتام يتعلمون فيها مجانا حفظ القرآن، كما تتمنى أن تزور بيت الله في رحلة حج باسم ابنها وابنتها الراحلين.
الكاتب
هدير حسن
الأربعاء ٠٢ أغسطس ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا