”مدام أمل”..”ضل أتوبيس ولا ضل راجل”
الأكثر مشاهدة

سمر حسن - هدير حسن
سيدة تحمل على ذراعها طفلتها الرضيعة، التي لم تُكمل عامها الأول، تجلس في الجانب الأيسر بالمقعد الأول في الحافلة المتجهة من "موقف ميدان لبنان" إلى نهاية "شارع فيصل"، تسيطر بصوتها الحاد على الركاب الذي يتعدى عددهم الـ30، وبنبرات قوية توجه التعليمات إلى السائق الذي يكبرها بـ20 عامًا، مشهد يتكرر على مدار 12 ساعة يوميًا ذهابًا وإيابًا، يتردد اسمها بهيبةِ مخلوطة بالاحترام بين سائقي الميدان، فهي طوق نجاة لمشاكلهم اليومية "مدام أمل ديه بمية رجل ديه ست جدعة أوي".
دخلت إلى عالم يهرب منه الرجال، معلنين الانسحاب لعدم القدرة على تحمل عواقبه، بينما امتلكت "مدام أمل" القدرة على امتلاك "حافلتين" يعملان في خط (ميدان لبنان- فيصل) منذ ست سنوات، التقي بها (احكي) للتعرف على كواليس مهنتها.
عادت "أمل" 37 عامًا إلى الخلف لتسرد ذكريات طفولتها في "منطقة شبرا" مكان مولدها، التي شكلت جزءا هامًا من شخصيتها متعددة الجوانب، فرغم تركها للمدرسة في مرحلة التعليم الثانوي إلا أنها تتحدث بثقة بالغة عن محصلتها العلمية "من كتر القراية اللي أنا قرأتها بقا عندي علم أكتر من مية جامعة"، ثم قادها القدر لكي تبدأ حياتها الزوجية في عمر الـ16.
كانتا الراحة والرفاهية المسيطرة على حياتها الزوجية نظرًا لعمل زوجها في أحد البنوك المصرية "من النادي للبيت ومنن البيت للنادي بعربيتي"، وسرعان ما أنقلب عليها الزمن وكثرت على كاهلها المشاكل الزوجية، ووصل الخلاف إلى حد فقد كرامتها، ونتيجة لوعيها المتراكم من كثرة القراءة في المجالات المتنوعة، أصبحت سيدة قرارها مما ساعدها على اتخاذ قرار الأنفصال "طلقني دلوقتي من الرجل دا" موجهة تلك الكلمات إلى المأذون.
أربع فتيات، عدم وجود سيولة مادية، حمل زائد، وسط هذه الظروف، اختارت أمل التحرر من العبودية التي كانت تعيشها –على حد وصفها-، ولكن بعد فترة قصيرة بدأت الديون تتراكم على كاهلها، مما حركها للبحث عن عمل، فوجدت عمل بالشركة الإنجليزية للنقل الجماعي في قطاع التذاكر براتب 300 جنيهًا، لم يكفِ هذا المبلغ الزهيد لسد احتياجات الأسرة المكونة من خمسة أفرد آنذاك، فاتجهت للبحث عن عمل آخر في نهاية عام 2010، وجمعت بين عملين "كنت بوفر كل مليم، وكنت بمشي عشان مركبش مواصلة بـ2 جنيه".
وسط الحديث تطرقت إلى هوايتها الخاصة، وكانت الدراسة المقارنة للأديان، التي تؤدي إلى فهم أعمق للاهتمامات الفلسفية الأساسية للأديان تمركزت في اهتمامات السيدة صاحبة الـ37 عامًا، وذهبت بشغفها إلى مجال "مقارنة الأجيال" - أحد فروع دراسة الأديان، التي تهتم بالموازنة المنظمة للعقائد والممارسات في أديان العالم-، ولدراسة ذلك بشكل أعمق التحقت بإحدى الأكاديميات المتخصصة في الدراسات الشرعية، وقدمت العديد من المناظرات حتى اختيرت للعمل في إحدى القنوات الفضائية قبل انفصالها، لكن سرعان ما تركتها "حسيت أن اللي في الأكاديمية مش فاهمين حاجة".
ونتيجة لقراءات السيدة المتنوعة والقدرة على النقاش المستمر، منحها مهارات عدة انعكست على تعاملها مع السائقين، فبدأت تكتب ملاحظات على أسطول الحافلات التابع للشركة في تقرير يومي، ويتم رفعه للإدارة، مما جعلها في مكانة الصدارة لدى رئيس الشركة "بقا عنده حالة انبهار بيا"، وفي ضوء ذلك تم ترقيتها في العمل وزاد راتبها إلى ثلاثة أضعاف، تزيد أعباؤها المادية بشكل طردي أو أكثر مع زيادة راتبها، وحرصت على تعليم بناتها بشكل جيد فأدخلت ابنتها الكبرى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في إحدى الجامعات الخاصة.
التفكير الدائم نحو المستقبل سيطر على عقلها ورغبتها في امتلاك (أتوبيس)، فتحققت رغبتها في سبتمبر 2011 وامتلكت حافلة، كانت تدير كافة أمورها بنفسها "كنت بفك الماكينة والفرامل وكانت لازم تبات تحت البيت عندي"، لم تنعم بالحلم كثيرا فقامت في صباح أحد الأيام على مانشيت بالقبض على صاحبة شركة الأتوبيسات وبموجب ذلك سيتم سحب الأتوبيس الخاص بها، بينما وقفت الأقدار بجانبها واستمرت الحافلة في العمل.
العمل مع السائقين يحتاج إلى قوة من نوع خاص، لفتت السيدة التي تقضي جل يومها وسط هذا العالم أنها كانت تحرص على عدم وضع أي مستحضرات تجميل على وجهها، وتلبس زي بمواصفات خاصة "مكنتش بلبس غير العبايات السودة السادة واستحالة ألبس بنطون ولا أي حاجة ضيقة"، تزامنا مع ذلك كانت تحرص على نبرة الصوت الحادة فكانت جملة (مدام في الشارع) بمثابة قانون يعيد الانضباط إلى العاملين معها، وكانت حقيبتها لم تخلو من وسائل الدفاع عن النفس "في مرة بعد الثورة شوية عيال حاولوا يثبتوا الأتوبيس مشوا يجروا من خوفهم مني"، ثم امتلكت "مركبة" آخرى، مما جعلها تتنقل بين أكثر من منطقة حتى وصل بها الحال للذهاب إلى الطبيب النفسي "أنا بكلم واحدة أعقل من أي حد في الدنيا" ووصف لها الطبيب أن ما يحدث لها بسبب الضغوطات التي تتعرض لها.
تكاثرت الأحمال عليها فلابد من تدبير مبالغ شهرية لسد احتياجات الأسرة "كنت بدفع 8 ألاف جنيه كل 3 شهور و200 جنيه في اليوم للدروس"، ونتيجة لتلك المتطلبات قادتها الصدفة السيئة -على حد وصفها- بمقابلة زوجها الثاني في يوليو 2014 متوقعة أن يقف بجانبها، بل حدث العكس، ونقض كلامه عقب الزواج "مصرفش عليا ولا عياله جنيه من يوم ما اتجوزته"، لكنها وجدت نقطة ضوء وحيدة من عتمة زواجها وهو نجلها "محمد"، وفي معرض حديثها كشفت أن السبب الثاني خلف زواجها الثاني هو العناد مع كل من يحيطون بها، فوقفت العائلة حجر عثرة أمام قراراها مما جعلها أكثر تمسكًا به "أتجوزت في 14 يوم"، دستور عملها يحتوى قوة الشخصية، إلى جانب منح من يعمل معها كامل حقه " أنا بيشتغل معايا 4 سواقين و4 محصلين".
عادت إلى العمل عقب ولادة طفلتها الأخيرة "وعد" بتسعة أيام فقط الحيطة أحسن بكتير من الرجل"، لتنصهر مرة آخرى وسط أكثر شىء يؤرق حياتها، وهي المخافلات "ممكن أدفع 70 ألف جنيه مخالفات غير المخالفات الفورية" غير صيانة السيارة التي تصل لمبلغ 25 ألف جنيه.
"عمر الرجل ما يعمل اللي أنا بعمله" أكبر ناس في مجال بيع السيارات يحدثها لكي يحصل على مشورتها، مرجعة ذلك أن السيدات يملكن مهارات تتفوق بها عن الرجال " يعني مثلا لو أنا اللي مشيت وجوزى هو اللي ربا العيال كانوا زمنهم فشلة" شارحة ما تقوم بها من إدارة المنزل "أنا زي الطور اللي بيدور في ساقية".
"أنا بتمني من ربنا أنام وارتاح" أجابت عن سؤال احكي المتكرر إليها عن حلمها ، لم تحصل على إجازة فلم ترى البحر منذ سنوات، رغم امتلاكها شقة بمدينة الإسكندرية، وتمنت أن تنهى أقساطها حتى تحصل على مبتغاها النهائي المتمثل في راحة البال.
الكاتب
سمر حسن
الأربعاء ٠٤ أكتوبر ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا