”نانسي” صحفية كفيفة تعشق ”الأهلي” وتحلم بلقاء لاعبيه
الأكثر مشاهدة
سمر حسن
"آن سوليفان" معلمة الكفيفة هلين كيلر، التي استطاعت أن تعلمها الكتابة رغم إصابة كيلر بالعمى وفقدانها لحاستي السمع والكلام، ولذلك اعتبرتها نانسي ملهمتها هي أيضا، لقدرتها على التعامل مع فاقدي أهم حواس التواصل، وأبهرها كيف جعلت من كيلر أيقونة للصمود والتغلب على "قدرها".
داخل منزل دافئ، استقبلتنا نانسي وأسرتها (والدتها وشقيقتها الكبرى) بعد أن عكفت على ترتيبه وتنظيفه بنفسها "أنا كنست الصالة دي لوحدي" قالتها بفخر، معتزة بقدراتها رغم فقدانها للبصر منذ ولادتها، والذي لم تعيده ثماني عمليات لم تُنجح الأمر بل زادته سوءا.
متقبلة لقدرها كفتاة كفيفة، لم ينتب نانسي اليأس وفقدان الهمة والأمل، فأحلامها بدخول الكلية التي تريدها وبددها المجموع، استطاعت أن تحققها وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، ووضعت قدمها على أولى الخطوات في أن تكون صحفية كفيفة، تتسم موضوعاتها بالمهنية والدقة، والتميز أيضا، ولكن الوصول لهذه الخطوة لم يكن سهلا، ولكنه احتاج منها الصبر والمثابرة وابتسامتها الراضية التي لا تفارق وجهها.
رغم أنها كانت الأولى على الثانوية العامة للمكفوفين، لم يسمح لها المجموع بالالتحاق بكلية الإعلام التي كانت تحلم بها "بحب الصحافة جدا، وبحس أنه الصحفيين مثقفين ومطلعين دايما، واللي بيشتغل فيها بيكون عايش في الدنيا"، كما أن درجات الاستثناء تنطبق على كليات بعينها، فدرست اللغة الإنجليزية بكلية الألسن، حتى كانت "الأخبار برايل" أول مجلة للمكفوفين تصدرها مؤسسة أخبار اليوم شهريا، فرصة نانسي سعد للعمل كصحفية، بعد أن طلب منها أحمد أبو هميلة، الصحفي الكفيف ومدير تحرير المجلة، عبر شقيقتها الكبرى التي تعمل صحفية هي الأخرى، أن تستعد بأفكار جديدة تنضم بها إلى المجلة.
إيمانا منها بضرورة اتسام الصحفي بالمهنية والاطلاع الدائم، أعدت نانسي لأول موضوعاتها بالمجلة بعد بحث مكثف وقراءة موسعة، حتى التقت بالدكتور نبيل فاروق، وأجرت معه حوارا أسعدها أن يكون أول إنتاج صحفي تقدمه "كنت بحبه من صغري، وقرأت له نقطة الصفر والشمس الباردة ورجل المستحيل".
تتوسط نانسي أختين، الكبرى سبقتها إلى الدنيا بعام ونصف، والصغرى أتت بعدها بخمس سنوات، تعاني هي وحدها من فقدان البصر، الأمر الذي احتاج من والدتها العناية الشديدة إلى جانب عمل بدوام كامل وأسرة تنتظر منها الاهتمام والرعاية، ولكنها أدارتها بـ "عناية ربنا وقدرته"، فلم تترك ابنتها الوسطى لحظة واحدة حتى تعلمت نانسي كيف تعتمد على نفسها.
"في معاناة من صغرها" هكذا رأت والدة نانسي مشوارها الطويل من التعليم إلى العمل، فكانت تضطر إلى الذهاب إلى مدارس المكفوفين، التي تبعد عن منزلها الكثير، وتعود منهكة ولكن تصر على المذاكرة، وهو ما جعلها دوما تحصد المراكز الأولى في المراحل التعليمية كافة، وتحصل على شهادات تقدير وتكريم ما زالت والدتها تحتفظ بها، لكن في المرحلة الجامعية واجهت عدم إتاحة الكتب المقررة بطباعة "برايل"، فكانت تضطر للجوء إلى الجمعيات الخيرية، التي تعتمد على متطوعين لا تستطيع إلزامهم بوقت معين، فكانت تتسلم المناهج قبل الامتحانات بأقل من شهر، ورغم ذلك لم يقل تقديرها في أي من سنوات الجامعة عن "جيد".
"كانت عذاب" هذا ما تتذكره نانسي عن المرحلة الجامعية، التي كانت أول احتكاك لها بعالم مختلف عن الذي تعودت عليه، فلا الكلية ولا أساتذة المواد ولا حتى الزملاء يعيرون اهتماما بفاقدي البصر، فالمطبوعات للمبصرين فقط، والطباعة "البرايل" غير متاحة، والحل الجمعيات الخيرية "مع إن الفروض يكون في حد مسئول عننا في الكلية مينفعش يسيبونا للمتطوعين"، مستنكرة أن يغفل المسئولون وجودهم "طب حتى يوفروا المواد والشرح على سيديهات".
"لما كنت بوصلها للجامعة كانوا زمايلها يسلموا عليا كأني أنا اللي صاحبتهم" تصرفات تبدو غير متعمدة، ولكنها كانت تزعج والدة نانسي، لأنها تحمل تلميحات وكأن وجود ابنتها وأمثالها من فاقدي البصر لا يُنظر لهم بعين الاعتبار حتى من الأشخاص العاديين، "كانوا بيعاملوني على أنهم بيساعدوني، مش زمايلي أو أصحابي" حتى الأساتذة يشرحون داخل القاعات والمدرجات دون اكتراث بمن حرموا نعمة النظر، فاقتحم نانسي شعور "أن وجودي مش فارق"، فقررت أن تقضي أغلب سنوات دراستها بالجامعة في المنزل.
مكثت نانسي عاما كاملا في البيت تنتظر فرصة العمل المناسبة، مدارس المكفوفين لم تعد في حاجة إلى مدرسي اللغة الإنجليزية "كتير مننا (تقصد المكفوفين) بيتخرجوا من ألسن، بعددنا بقى أكبر من احتياجات المدارس"، ومكاتب الترجمة لا توظفهم في تجهيل واضح للشهادة التي تحملها، فكان الحل في العمل "كول سنتر" بأحد الشركات، لتبدأ مرحلة جديدة تضطر فيها إلى الاعتماد على نفسها في الذهاب والعودة من العمل وحدها، بعد أن اعتادت والدتها على مرافقتها إلى أي مكان تذهب إليه.
"كانت شغلانة صعبة، وحسيت أنه مش مجالي ولا شخصيتي" ورغم ذلك أكسبها العمل ثقة التعامل مع الآخرين، والقدرة على التعامل في الشارع في ظل غياب مفهوم مراعاة فاقدي البصر، فرغبة العمل لم تكن حاجة إلى المال، ولكن لتبديد شعور نانسي بالإحباط وأنها "كم مهمل"، فكل فرد في الأسرة له عمله ودراسته، وتبقى هي وحيدة في المنزل.
ترى والدتها أن المجتمع يفتقر إلى ثقافة التعامل مع الكفيف "الناس في المترو أو الشارع ممكن تزقها (تدفعها) عادي"، مشيرة إلى ضرورة تخصيص أماكن للمكفوفين بالمواصلات العامة، ووجود إرشادات واضحة للتعامل معهم "المفروض أنت اللي تجري عليها وتساعدها، مش هي اللي تدور عليك"، ورغم ما تعتقده الأم ترى نانسي "الناس متعاونين وبيحبوا يساعدوا" في سماحة وتقبل للمواقف كافة دون امتعاض، ولكن يؤسفها سؤالهم عن رغبتها في العمل "بيسألوني باباكي ومامتك عايشين.. أمال بتشتغلي ليه" كأن الكفيف عليه أن يلتزم المنزل طالما يوفر له الأهل العيشة الكريمة.
عملت نانسي في مجال "الكول سنتر" (خدمة العملاء) في أكثر من شركة على مدى الأربع سنوات التي تلت تخرجها من الجامعة، متقبلة بُعده عن مجال دراستها أو المجال الذي تحب أن تعمل به، ومتحملة بعد أماكن العمل عن منزلها، حتى كانت "الأخبار برايل" بالنسبة لها الفرصة التي تتمنى لها النجاح والاستمرار كي تنتهجها جرائد أخرى "مبسوطة جدا بيها، ونفسي نقدر ننافس مجلات وجرايد تانية" متمنية أن تتاح الجريدة للمبصرين والمكفوفين، وأن تتناول قضايا مختلفة وفي كل المجالات وليس شئون المكفوفين وحدهم "عاوزاها تبقى مجلة عادية، عشان منبقاش بنكلم نفسنا في الآخر"، مستعدة للتطوير من مهاراتها والتميز في إنتاج موضوعات صحفية غير تقليدية وتتسم بالمهنية.
"بحب الأهلي جدا يمكن أكتر من الشغل، وأبوتريكة أكتر واحد" ولذلك تنوي نانسي أن تتخصص في الأخبار الرياضية ، وتتمنى أن تكون مندوبة لمتابعة أخبار النادي الأهلي، الذي تعشقه منذ صغرها، عندما بدأت في متابعة مباريات كرة القدم مع والدها، حتى أصبح الدخول للنادي ولقاء لاعبيه واحد من أحلامها، الذي كان قريبا من التحقق بعدما سنحت لها فرصة زيارته مع شقيقتها ولكن منعها أحد رجال الأمن من مقابلة اللاعبين بطريقة غير لائقة "قالنا امشوا بدل ما أطردكم"، شعرت حينها بالإهانة التي أفسدت فرحتها، ولكنها لم تمح حب النادي ولاعبيه من قلبها، وتظل سيرته وانتصاراته قادرة على إدخال البهجة على قلبها.
تحب نانسي القراءة، وقرأت لطه حسين وأجاثا كريستي، ورغم قلة الإنتاج الأدبي المطبوع بطريقة برايل "كله حاجات أطفال وقديمة" تلجأ إلى الروايات المتاحة على الإنترنت بصيغة الـ Word مستخدمة قارئ الشاشة، ولكن يزعجها ندرتها "كان نفسي أقرأ لعباس العقاد ورواية عزازيل"، فقارئ الشاشة لا يقرأ سوى "الوورد"، وأغلب الروايات تنتشر إلكترونيا بصيغة الـ PDF، كما أن الكتب المسموعة قليلة، مما يجعلها تواجه أزمة عليها أن تضع رغبتها في القراءة، وخصوصية فقدانها للبصر في الاعتبار، متمنية أن يدرك كثيرون أن عدد المكفوفين وصل إلى 3 ملايين.
الكاتب
هدير حسن
الأحد ١٥ أكتوبر ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا