فدوى طوقان.. شاعرة المقاومة الفلسطينية التي عاشت ”رحلة صعبة”
الأكثر مشاهدة
"مسيرتي ورحلتي كانت صعبة وشاقة"، فالشاعرة الفلسطينية نشأت في بيت لا يؤمن بحق البنت في حياة مماثلة ينعم بها أشقاؤها الرجال، "كان الرجال في عائلتي يتكلمون التركية والإنجليزية والعربية، يلبسون أفضل الثياب، ويقعون في الحب، وإذا أرادت الفتاة أن تطور نفسها تجد الكف على وجهها".
في كنف بيت آل طوقان، العائلة الفلسطينية المعروفة، صاحبة العلامات النضالية في مقاومة الاحتلال، ولدت فدوى طوقان، الابنة السابعة بين عشرة أطفال، عام 1917، لم تعلم يوم مولدها بالتحديد، ولكنها قدرته بالأول من مارس، عاشت طفولة لم ترق لها، ولم تنعم فيها بالسعادة، فكانت المسيرة شاقة منذ البداية، وحتى قبل الولادة، مع محاولات الأم التخلص من جنين رافض متشبث بالحياة، وانتظار الأب لولد خامس "كانت الحياة بالنسبة له مال وبنون".
أتت طوقان إلى الدنيا متشوقة إلى لمسة حنان من أب أو ضمة حضن من أم، لكنها وجدت الجفاء وعدم الاكتراث بموهبة حب الشعر وإلقاء القصائد، التي لاحظتها معلمة المدرسة "كنت أحفظ القصائد، وألقيها بطريقة درامية"، فكانت المعلمة تفتخر بقدرتها وتميزها وتحفزها، وفي حين بدأت تزدهر في دراستها الابتدائية، فاجأها المنع والحبس.
مثل كل الأطفال مع خطواتهم الأولى نحو المراهقة، كان هناك طفلا في حيها بنابلس يتتبعها ويرسل لها الكلمات الرومانسية معجبا بها، فلاحظ أحد الجيران وأخبر الأهل، حينها قرر أخوها يوسف ألا تخرج من المنزل وحدها أو بصحبة أحد، ومنعها من إكمال دراستها، وأصبحت جدران البيت هي سجنها الذي تحاول أن تخرج منها.
بسبب المنع والتقييد، والتعمد في معاملتها كفتاة عادية نمطية حاولت فدوى، وهي ابنة الثانية عشرة من عمرها، أن تتخلص من حياة لم تر فيها سوى الكبد والمشقة، فأمسكت بعود كبريت ولكنها لم تقدم على الخطوة، وقررت أن تخوض الطريق الصعب الذي كتب عليها، وتعلم نفسها لتفعل ما تحب، حتى جاءها "المنقذ".
إبراهيم طوقان، الشاعر والمدرس، الذي كان قد أنهي دراسته بالجامعة الأمريكية في بيروت، وعاد إلى فلسطين ليدّرس للطلاب في مدرسة النجاح النابلسية، ويكون طوق النجاة الذي بعثه الله لفدوى، حين بدأ يلحظ اهتمامها بالشعر فتح لها مكتبته الخاصة، وضمها إليه يعلمها ويدعمها، فاعتبرته "الدرع، والمعلم"، والباب الذي انفتح على العالم الخارجي بعد أن أوصده أخوها يوسف.
عكف إبراهيم على تعليم أخته على مدار عامين، حتى استطاعت أن تتقن اللغة العربية وعلم العروض، وتجيد نظم الشعر، وبدأت في نشر قصائدها بالصحف والمجلات، ورغم معارضة بعض أفراد الأسرة، لم يكترث إبراهيم "فتح الآفاق أمامي، واتغير الكون"، وبدأت تشعر فدوى أنها راغبة في الحياة، بعد أن غسلها الشعر وتعلمه من كل الشوائب النفسية التي علقت بوجدانها.
تحت اسم "دنانير" و"المطوقة"، الذي يشير إلى اسم عائلتها والقيد والطوق الذي يفرضه عليها المجتمع، نشرت فدوى القصائد والأشعار بالمجلات والجرائد، حتى حدثت الطامة الكبرى في حياتها، وهي رحيل الأخ والمعلم "إبراهيم طوقان" عام 1941، ليظل شعورها بافتقاده ملازما لها طوال سنوات عمرها.
في عام 1946، أصدرت فدوى كتابها النثري "أخي إبراهيم" متحدثة فيه عن سيرة الأخ الشاب صاحب الروح الرقيقة، الذي رحل في السادسة والستين، وهو في ريعان شبابه، وبداية مشواره، لتوثق بهذا الكتاب العلاقة التي جمعته بأخيها، وتحكي للعالم عن سيرة شاعر أنهكه المرض وضيعه صغير، وتقول في كتابها "توفي شقيقي إبراهيم، فكانت وفاته ضربة أهوى بها القدر على قلبي، ففجر فيه ينبوع ألم لا ينطفئ، ومن هذا الينبوع تفجرت أشعاري على اختلاف موضوعاتها"، ورثتها في قصيدتها "رجاء لا تمت":
رجاءً لا تمُتْ
يا أخا الروحِ رجاءً لا تمُتْ
أو فخُذْ روحي معك
ليتني أحمِلُ عن قلبكَ ما
يوجع قلبك
ومن الألم الذي أثقل قلبها، أصدرت فدوى ديوانها الأول في 1952 بعنوان "وحدي مع الأيام"، ترثي في أغلب قصائده وفاة الأخ، وتنعي وفاة الروح الوحيدة، وتوالت بعده الدواوين التي قدرت بثمانية منها (وجدتها، أمام الباب المغلق، الليل والفرسان، تموز والشئ الآخر)، وآخرهم "اللحن الأخير" عام 2000، الذي كان أخيرا عن حق، ورحلت بعده عام 2003.
شاعرة الوجدان، آلمها الاحتلال وعذب قلبها تشتت فلسطين، فكتبت قصائد ألهبت المقاومة، وأشعلت نار الإسرائيليين، فقال عنها موشيه ديان، العسكري والسياسي الإسرائيلي، "تلك الشاعرة التي تخلق كل قصيدة من قصائدها عشر مقاومين"، كتبت شعر الرفض والمقاومة والتشبث بالأرض، ففي قصيدتها "نداء الأرض" قالت فدوى:
أتُغصب أرضي؟
أيُسلب حقي وأبقى أنا حليف التشرّد أصبحت ذلةَ عاري هنا؟
أأبقى هنا لأموت غربياً بأرض غريبة؟
أأبقى؟ ومَن قالها؟ سأعود لأرضي الحبيبة
سأنهي بنفسي هذه الرواية
فلا بد، لا بدّ من عودتي
كان بعينه يرسب شيء
ثقيل كآلامه مظلم
لقد كان يرسب سبع سنين
انتظار طواها بصبر ذليل
تخدره عصبة المجرمين
وترقد تحت حلم ثقيل
أهوى على أرضه في انفعال يشم ثراها
يعانق أشجارها ويضم لآلي حصاها
في انتفاضة فلسطين الأولى، انفعلت فدوى مع أطفال الحجارة الذين دافعوا عن أرضهم بكل ما يملكون من حماس وحب ودم، وبعد انتهاء الانتفاضة باتفاقية أوسلو، وفي زيارة لياسر عرفات إلى نابلس عام 1994، قال في خطاب إلى الجموع "نابلس جبل النار.. نابلس الشهداء.. نابلس.. فدوى طوقان" اندهشت حينها، وكانت تتمنى من ابو عمار أن يذكر الأطفال والنساء.
اتخذت من بعدها ألقابا عدة، فهي شاعرة المقاومة الفلسطينية، وشاعرة فلسطين، و"أم تمام"، ولكن الشاعر محمود درويش قال عنها "أم الشعر الفلسطيني"، فكتبت تقول في قصيدتها "الفدائي والأرض":
يا ولدي
يا كبدي
من أجل هذا اليوم
من أجله ولدتك
من أجله أرضعك
دمي و كل النّض
و كل ما يمكنه أن تمنحه أموته
يا ولدي، يا عرسة كريمة
اقتلعت من أرضها الكريمة
اذهب، فما أعزّ منك يا
بنيّ إلاّ الأرض
كان للشارعة الفلسطينية علاقة بمصر، فالتقت بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي عبر عن إعجابه بشعرها وتقديره لها، ومن خلال قصائدها المنشورة في المجلات الأدبية، وخاصة مجلة "الرسالة"، كان يتابعها الناقد المصري أنور المعداوي، الذي كان ينشر متابعاته النقدية في مجلة الثقافة، وبعث لها برسالة يخبرها فيها بحبه لما تكتبه ورغبته في أن ينشر لها ديوان، وكان للعلاقة التي جمعتهما تفاصيل أخرى لكن فدوى لم تعلن سوى عن هذا الجزء.
في كتابه "بين المعداوي وفدوى طوقان: صفحات مجهولة في الأدب العربي"، الذي نشره الناقد رجاء النقاش، يتعرض لـ 17 رسالة كتبها المعداوي إلى شاعرة فلسطين، وصرح في إحداها بحبه حين قال: "لا يا فدوى، إن الحب عاطفة مقدسة، وإذا كنت قد اعترضت على حبك يوما فهو اعتراض على أسلوب هذا الحب، على أن صلوات شعورك قد رتلت يوما في معبد لا تعي جدرانه حرارة الدعاء.
أنت قديسة، لأنك عرفت الحب على حقيقته المثلى وهو مناجاة بريئة، تُرى هل أنت معي يا فدوى وأنا أغترف من نبع الشعور هذه الكلمات؟".
لم تبح فدوى عن هذه العلاقة ولكنها كتبت عن مصر تقول:
أأنا هنا؟ في مصر، في الوادي النبيل
أأنا هنا في النيل، في الهرام، في ظل النخيل
وتلفتت عيناي في دهشٍ، وفي لهف غريب
ماذا؟ هنا الدنيا الخلوب تثير أهواء القلوب
ماذا؟ هنا نار الحياة تؤج صارخة اللهيب
وفي ديوانها الأخير "اللحن الأخير"، كتبت فدوى بخجل، كما تصف، معبرة عن مشاعرها في عمر اعتبرته كبيرا، حريصة من انتقادات المجتمع، الذي طالما خشيت ردات فعله، وقالت في قصيدتها "أنشودة للحب":
أنا ظلٌ
وحدي في كون مهجور
فيه الحب تجمد
فيه الحس تبلد
وأنا الطفلة
تصبو للحب وتهفو
للفرح الطفولي الساذج
للنط على الحبل
وللغوص بماء البركة
للهو مع الأطفال
لتسلق أشجار الدار
ويبقى شعورها بفقدان الحب والاهتمام هو المسيطر على رحلة وصفتها بالأصعب والأقسى، كما جاء في كتابيها للسيرة الذاتية "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" عام 1985، و"الرحلة الأصعب" 1993، الذي تمت ترجمته للفرنسية، فكان طريقها شائكا، غير ممهد ولكنها استطاعت أن تشقه بروح متحدية رغم عذوبتها وهدوئها البادي على وجهها وفي نبرات صوتها.
نالت فدوى الوسمة والجوائز، منها (جائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر المتوسط 1978، جائزة سلطان العويس من الإمارات 1989، وسام القدس 1990، وسام الاستحقاق الثقافي من تونس 1996، ووسام أفض شاعرة في العالم العربي). وفي 12 ديسمبر من عام 2003، رحلت شاعرة الحب والمقاومة والألم تاركة قبرها يشهد على مسيرتها بكلمات من قصيدتها "كفاني أظل بحضنها":
كفاني أموت على أرضها
وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبا على أرضها
وأبعث زهرة
تعيث بها كف طفل نمته بلادي
كفاني أظل بحضن بلادي
ترابا
وعشبا
وزهرة
الكاتب
هدير حسن
الثلاثاء ٢٦ ديسمبر ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا