نجلاء أشرف تكتب: اليتم لا يكسر أجنحة الفراشات
الأكثر مشاهدة
أكاد أراكِ تبتسمين.. عيناكِ البنية الامعة والتي تخبرني بكل ما أخفاه عني صمتك، ربطة شعرك العالية بالقلم الرصاص وكأنها تتحدى من يظن أن الجمال ينحصر في تطاير الشعر الثائر، أحلامك تتجسد صورًا ملونة، شغفك يفتح لي أبوابًا منيرة ملونة بلون قوس القزح، لا أحد يرى جمال إشراقة وجهك وأنتِ شاردة ومنهمكة في رسم لوحاتك، تُلقي بالألوان على اللوحة وكأن كل لون يقتبس من نور روحك وينسكب على اللوحة، عذوبة اللون الأزرق مع تمايل درجات الأصفر وهو يصف مشهد الغروب بصورة تجعلني في كل مرة اتعجب كيف لألوان واحدة أن تُكون كل هذا الجمال الذي يهيمن على القلب.. وكعادة كل لوحة تمضيها برسم فراشة صغيرة في طرف اللوحة زرقاء ويحددها اللون الأسود.
بعد وفاة والديها وهي في الثانية من عمرها واجهت صعوبات كثيرة لتصل لما تريد ولتعرف ما هو فعلًا؟ أما الآن فقد حلقت الفراشة بأجنحتها الخفيفة لتُلهم كل فراشات جيلها بأنه لا يوجد ما يمنع أن نحلق بأحلامنا حتى نصل بها لبر أمن يسمح لنا بأن نستمتع بشغفنا ونسكن مع ذاتنا.
يقولوا الحب يقرب البعيد، وأقول لا يوجد شخص بعيد في الحب، فحين يتلاقى الأحبة تنعدم المسافات وتجبر الروح بوصل أبدي، لا يعرف زمان أو مكان، فقط يُعطي من أصاب قلوبهم سعادة خفيفة تهون عليهم طول الطريق.. فالحب لا يقطعه موت أو قطيعة، الحب خيط موصول من نور، كلما دخل القلب أشرقت فيه معاني جميلة لا مثيل لها لا يفهمها سوى المحبون. ولا أجد أجمل من حب آبائنا وأمهاتنا لنا لأوضح به رقة هذا المفهوم، فبالرغم من شهرة مصطلح "الحب" على أنه علاقة سامية بين حبيبين قد تصل بهم للزواج أو لا، إلا أنني تعلمت في "مدرسة الحب" أنه علاقة روحية بين شخصين تمتزج مشاعرهم لتكون كيان واحد، وتختلف صفاتهم وأشكالهم في مرحلة وتتحد أحلامهم واهتمامهم في مرحلة أخرى.
ولكن حب أهالينا يختلف في أن بدايته أنه بلا مقابل، لا أحد يجبر أبيك أو والدتك أن يكرس حياته ليطعمك ويهتم بك ويهذب طباعك وأخلاقك، فبدلًا من أن تكون كائن حيواني تأكل وتنام وتتكاثر، أخلاقك تهذب ووعيك ينضج وتفهم لما أنت موجود في هذا العالم؟ وما هو دورك؟ وكيف ستؤديه؟ تلك الأسئلة التي قد تأخذ أعمارًا من أناس ولم يعرفوا لها إجابة... قد يوفرها عليك أهلك بتعليمك تعليم سليم مبني على مبادئ المنطق والحب والرحمة، فتفهم ذاتك ودينك وتتعرف على محبوبك، وتفهم ما هو الحب؟ بمجرد ما أن تتأمل حب والديك لك، والتي هي مثال صغير لحب موجدك لك.
ولكن ما بال الذين فقدوا أبويهم وهم صغار أو قُدر عليهم أن يعيشوا بلا أب ولا أم ولا أسرة محبة؟ أيتركوا للهيب العبث والخبث؟ أم تربيهم الملائكة؟ بل تعلمهم الأيام برغم قسوتها أن لا باقي ولا سند لهم سوى الله؟ أسئلة كثيرة حاصرتني بلا إجابة حتى رأيت بعين اللطف أن لا أحد يختار قدره وفي نفس الوقت لا يوجد شخص ظلمته أقداره بل هيئته أقداره لأن يصل بروحه وجسده وعقله إلى اليقين. يقين أن لا شيء يحدث في هذا العالم عبثًا، وأنه لا يوجد شخص تظلمه أقداره، وأننا ما زلنا نملك أن نختار كيف نعيش حياتنا برغم ما نواجهه فيها من آلام. كل شخص تهيئه أقداره أن يكون بأفضل ظروف تصلح حاله، وتربيه ليكون ما هو عليه الآن. كلها دروس صعبة ولكنها لا تخلو من اللطف. لم تخلق القسوة لنصف بها الحياة بل لنتعرف على ضدها من رحمة وحنان وود في كل قدر وكل فقد وكل تفصيلة صغيرة في حياتنا.
اليتم ليس بحرمان بقدر ما هو صورة واضحة لكي تصل لنا رسالة أن الأبوين ما هم إلا مظهر من مظاهر عناية الله بنا، سبب.. قد يتواجد وقد ينعدم، وإذا انعدم ستظل يد الله تحمي من تشاء لمن تريد. فالناس كلهم وسائل يسيرون بداخل خريطة واسعة المعالم متعددة الاتجاهات كل فعل فيها يؤثر في الآخر، إذا أردت أن تفهم كل حركة فيها ستعجز وتتبرجل وربما تجن.
دائمًا ما تلهمني الفراشة، خاصة بمراحل عمرها، فهي تتحول من مجرد بيضة ليرسوع (دودة) ثم تدخل شرنقتها لتتحول إلى فراشة، كذلك نحن نبدأ حياتنا بالحبو ثم نبدأ إدراك ما حولنا ونبدأ نسعى لأن نكون أفضل حتى إذا تضغطنا ظروف الحياة وتحدياتها لندخل في الشرنقة بلا رفيق أو أم أو أب، حتى تحولنا الضغوط من مجرد يرقات لفرشات ملونة زاهية قوية برغم خفتها، فنكسر الشرنقة ونستعد للطيران بقلب نقي وعزم قوي وروح فراشة حر لا تثق سوى أن هناك يد حكيمة تدبر لها كل خطوة قبل أن تخطوها.
أنتِ دائمة قوية بأجنحتك، العلم يصونك والصحبة تخفف عنك مصاعب الطريق، سواء كانت بالصداقة أو بالأخوة التي تصنعها الأيام، يصنع الله بداخلك قوة وإرادة تمهد لك طريق النجاح، ويتوج هذا النجاح بالتوفيق من الأقدار المتتالية التي تصنع منك بطلة محاربة لأجنحة فراشة وقلب برغم ما فيه من كسرة وألم لما فقده إلا أنه ما يزال ينبض بالحب والنور والعطاء.
كثيرًا ما أرى مظاهر غير منصفة من تعامل المجتمع مع من تربوا في دار أيتام، لمجرد أنه لا يوجد أحد يدافع عنهم بقوة، ولأن في غالب الأحيان تكون هذه الدور فاسدة وتفسد بطبيعتها أبنائها سواء نفسيًا أو جسديًا، فيرفض بعض الأهل تزويج أبنائهم لهم، ويستغل البعض احتياجهم لتكوين أسرة يعوضوا بها ما فاتهم من سعادة. وتلك المظاهر بقدر قسوتها ومرارتها إلا أنها قد تنجي من يمر بها من أي تعلق بأي شخص وبأي شيء ويكون تعلقه الوحيد بمن هو أحن عليه منه. ولكن المجتمع يحتاج لأن يعيد بناء مفاهيم الود والرحمة والاحتواء لكل أطيافه، وأن لا يزيدوا بلاء الفقد ببلاء المهانة فيزرعوا الكراهية بدلًا من الحب، ويجنوا حنطة بدلًا من الزهور التي حتمًا ستنميها الفراشة حين ترفرف بروحها الحرة، وقلبها المناضل.
الكاتب
نجلاء اشرف
الثلاثاء ١٨ أكتوبر ٢٠١٦
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا