نجلاء أشرف تكتب: كوني أنت الضوء بعلمك في ظلمة الجهل
الأكثر مشاهدة
تمسك بقنديل قديم رأته مركونًا بجوار بعض الصناديق القديمة التي كانت في شقتهم القديمة، تنفض عنه التراب، لترى ألوانه البارزة برغم مرور السنوات، وبرغم احتمائه بالتراب، ثم تنظر بداخل الكارتونة لتجد صحيفة قديمة لتجد اسم " السيدة نفيسة.. نفيسة العلوم تنير مصر".
تأخذ بقماشة قديمة لبطانة فستانها وتبلل جزء منها بالماء، وتبدأ بمسح القنديل الذي تبدأ ألوانه في الظهور، ما بين الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر، أربع أبواب منقوش عليها آيه "الله نور السماوات والأرض"، ثم تفتح باب القنديل فتجد شمعة تختلط رائحتها بالتراب وعبق الماضي والأساطير الشعبية، تقرر أن تنيرها لتسهر على ضوئها طوال الليل وهي تقرأ المقال عن "السيدة نفسية" رضى الله عنها وأرضاها. "نفيسة العلوم" التي كان يأتي إليها طلاب العلم من كل مكان في مصر والعالم العربي ليتعلموا منها. السيدة نفيسة ابنة سيدنا الإمام حسن الأنور بن سيدنا الإمام زيد الأبلج ابن سيدنا الإمام الحسن السبط ابن سيدتنا السيدة فاطمة الزهراء بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وممن أخذ منها الإمام الشافعي العلم، وكان يطلب منها دومًا أن تدعو له في مرضه.
لم تشعر بنفسها سوى وبعض العبرات الدافئة ترسم على الصحيفة مجموعة دوائر صغيرة تتسابق لتحكي للصحيفة عن أوجاع صاحبتها، فمسحت دموعها وأطفأت القنديل ثم ذهبت لتنام في غرفتها الضيقة، التي يكاد سقفها يسقط عليها كما يتساقط طلاه المتهالك، وتصفر رياح الخوف كل ليلة من نافذة غرفتها، وكأنها تزيد رعبها للمستقبل يومًا بعد يوم. فهذا هو أخر يوم لها في الدراسة بعد أن قرر أبويها أن ما درسته يكفي خاصة بأنها أتمت الثالثة عشر وبدأ الناس يطلبونها للزواج، وكما أن حالتهم الاقتصادية الآن لا تسمح لهم بدفع رسوم دراستها هي وأخواتها السبع.
هذه الفتاة ليست من القرن التاسع عشر، وليست فقط في أرياف أو نواحي القاهرة بل هي تحيى وسطنا في المناطق الشعبية وأحيانًا قد تكون ابنة عاملة تساعدنا في المنزل أو بواب قرر أن لا يتحمل مسئولية أسرته. قد تتزوج هذه الفتاة من عربي ثري يكبرها بـ 30 عامًا، وقد تتزوج من يكبرها بعشر أعوام ويجعلها تعمل ليتكسب من ورائها. هذه الفتاة لا ذنب لها أنها ولدت بين أبوين فقريين... ليس فقر المال.. بل فقر المشاعر.. فقر الرحمة.. ففضلوا أن يستريحوا هم الآن ليتخلصوا من عبء أحد أبنائهم. هي بكت حين علمت أن في الماضي لم تكن النساء تخرج من المدارس ولا تكمل تعليمها حتى تتزوج. بل بالعكس كان يأخذ العلم من النساء، فأغلب أحدايث سيدنا رسول الله روتها السيدة عائشة رضى الله عنها وأرضاها. ولم يخلوا التاريخ الإسلامي أو المصري بشكل عام من العالمات المسلمات في جميع المجالات وليس في العلم الشرعي فقط. أما عن باقي العلماء فيكفي أن من رباهم جميعهم امرأة. ولا ينكر أحد فضل التربية على إخراج رجال أسوياء. كذلك ضرر جهل المرأة في تربية أشباه رجال لا يتحملوا المسئولية، وإن الجهل ليس السبب الوحيد.
تتعدد الأسباب وراء إخراج الفتيات مبكرًا من الدراسة، وتتعدد أسباب جهلهم برغم الدراسة، فتجد منهم من يعادي المرأة بكل قوته وكأنه من جنس أخر. وتجد منهن من يفعل كل ما بوسعه لكي تصبح أفضل باعتمادها على نفسها وثقتها في قدرتها وأحلامها. فقد تستقل الفتاة بعيدًا عن أسرتها لتمارس حقها في التعليم، بالرغم مما سيقوله عنها الناس وبالرغم من ألم ذلك على نفسها. وتواجه أنياب الجهل باستقلالها وسمو أخلاقها برغم ما تتعرض له من مضايقات وتحرش ونظرة دونية.
فلم يخل تاريخ مجتمعنا من نساء يقاوموا الجهل والتخلف والقمع، مثل سميرة موسى (1917-1952) أول عالمة ذرة، ولطفية النادي (1907-2002) أول كابتن طيارة مصرية والتي ساعدتها هدى شعراوي الرائدة النسائية (1879-1947) لشراء طائرة تستطيع أن تسافر بها. لكن مجتمعنا للأسف يفعل بالنساء كما فعل هيباتيا (350-370 م وحتى مارس 215م)، فيلسوفة وعالمة رياضيات، هيباتيا حصلت علوم كثيرة وخشيت الكنيسة من إلتفاف طلاب العلم حولها في ذلك الوقت واهتماهم بأرائها التي عكس سياستهم بالطبع، فما كان منهم سوى أنهم اقتحموا منزلها وجروها من شعرها ثم جردوها من ملابسها وجروها بحبل ملفوف بين يديها وطافوا بها في شوارع الإسكندرية، ويقال أنهم عذبوها ثم سلخوا جلدها وحرقوا ما تبقى منه. وبغض النظر عن أن هذه طريقة وحشية في القضاء على كل من يخالف رأي السلطة، إلا أن رؤية المجتمع للمرأة على أنها مجرد أداة للإنجاب فقط يجردها من رؤية قيمتها الحقيقة لنفسها وتصبح فعلًا كذلك لا ترى سوى جسدها العاري الذي يرغب في امتلاكه رجال كثيرون، سيفوز به رجل واحد أو ربما أكثر على حسب قدرها، لا يهم قدر ثقافتها أو درجتها العلمية أو حتى رؤيتها في طريقة تربية أطفالها. كأنها عورة... كأنها عبدة يمتلكها سيدها ليشبع أهوائه وحتى في زمن العبيد كان الشكل أكرم فالمصطلحات واضحة، سيد وأمة هو يملكها بماله وهي ليس لها حق الأعتراض. أما الآن فالموضوع منمق أكثر وعلى دائرة أكبر فالسيد هو الذكر سواء كان أب أو أخ أو عم أو زوج، والعبدة المغلوبة على أمرها هي الفتاة، لا تملك حق الاختيار وإذا تمردت وقررت الفرار منهم قد تقع فريسة سيد أخر إذا لم يحالفها الحظ وتستطيع أن تبني كيانها بنفسها.
ولكن هل هذا ما نحتاجه لبناء مجتمع صحي؟ ليس مثالي فقط صحي يخرج أفراد أسوياء يعتمدوا على أنفسهم وينتجوا بإخلاص. لا أحب أن أجعل رؤية الموقف مظلمة ولكن للأسف نحن في مجتمع ذكوري يخرج الكثير من الأفراد التي تحتاج لإعادة تأهيل نفسي لتستطيع أن تتأقلم مع الواقع مرة أخرى. وليس معنى اهتمام المرأة بدرجتها العلمية وعملها أن تهمل أسرتها وتربية أبنائها، ولكن التوازن مطلوب، في حين أن حق التعليم هو حق من حقوقها وليس فضل يتفضل به عليها أحد أفراد أسرتها، برغم أن الكثير منا لا يشعر بهذه المشكلة إلا أنها موجودة في مجتمعنا وبنسبة كبيرة، وفي صور مختلفة فقد يكون علو المرأة في بعض المراكز والقيادات سبب في تأخر زواجها أو العديد من المشكلات الزوجية بسبب نقص عند الزوج، فليس الحرمان من التعليم فقط هو العائق بل عدم تقدير قيمة العلم أيضًا، وأعتبار أن الإنجاز الوحيد للمرأة هو إنشاء أسرة سعيدة ناجحة.
يحتاج الفرد السوي أن يتربى في أسرة متوازنة محبة له، تحتويه فيها أم حكيمة تربت على الأخلاق الكريمة والاستقلالية وأب حنون يعلم واجباته وحقوقه.
أهتم كثيرًا بقضايا المرأة لإيماني بأنها سر صلاح أي مجتمع، ولأن أي أمل او رغبة في الإصلاح لن تحدث بدون أن تكون المرأة هي من تراعيها وتستفيد منها.
أما لحبيباتي الذين يقاتلون في ميادين الحياة، المكافحات العاملات العالمات، أقول لكن لا تيأسن فأنتن أقوى من أي تحدي بالإستعانة بالله، والصبر والأمل. لن تتحرر الأحلام بلعن الواقع، لن تفتح أبواب الرزق بالبكاء على المستقبل الباهر الذي كان سيكون لولا أن.. حدث ما حدث..
كل ثانية في أعمارنا لها دور لها هدف إما أن نستفيد منها أو نهملها ونلعن من تركنا في ظلام الواقع والجهل، في حين أننا نحن من لم نشعل النور بداخل أرواحنا وأختارنا الموت البطيء بدلًا من التحليق في سماء تحقيق المستحيل.
الكاتب
نجلاء اشرف
الأربعاء ٢٨ ديسمبر ٢٠١٦
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا