نجلاء أشرف تكتب: كوب قهوة ووردة في عيد الأم
الأكثر مشاهدة
تمسك بوعاء القهوة الصغير وتضع فيه معلقتين سكر ومعلقة كبيرة من البن ثم تقلبهم حتى تختفى كتل البن المتجمدة ثم تضعها على أصغر عين في البوتجاز، وتخفض شعلة النار حتى تنتهي من تقليب ما تبقى من السكر غير الذائب والبن. ثم تعلي شعلة النار مرة أخرى، فهي لا تستطيع أن تصبر على شيء أو هكذا كانت. في نفس الوقت تعد صينية القهوة بكوب ماء بارد وفنجان قهوة مزين بالورود الحمراء والصفراء، فما إن تبدأ القهوة بالفوران تزيلها بسرعة قبل أن يختفي "الوش" مما يجعل والدتها تنظر لها وتضحك على زوال عقل ابنتها الذي جعلها تنسى القهوة كالعادة وتتركها لتتفقد "الفيسبوك" أو التلفاز كعادتها وتترك القهوة لتفور.
ولكن تلك المرة لم تنسى القهوة بل ظلت تراقبها في صمت حتى وضعتها باعتناء في الكوب ووضعت بجانبها زهرة تيوليب بنفسجية كما تحبها والدتها وظرف مغلق، ثم دقت باب الغرفة ودخلت. لم تجد والدتها كعادتها في غرفتها فقد سبقتها لعالم أهدى وأنقى منذ ثلاث سنوات ولم يبقى في الغرفة سوى ذكريات ابتسامتها عند تلقى كوب القهوة الساخن لتستمتع بوقتها للتخطيط في جعل هذا العالم أفضل لمن حولها سواء كانت أسرتها الصغيرة أوأخواتها وأصدقائها.
جلست على كرسي المكتب الخشبي في المكان التي أعتادت أن تجلس فيه والدتها الراحلة، ثم فتحت الظرف والتي أعددت لها فيه بعض الكلمات كما أعتادت أن تفعل منذ صغرها، فلم تكتب أي شيء إلا وكانت والدتها أول من يقرأوه. ففتحت الظرف وأخرجت مبلغ تعهدت أن تخرجه هدية وصدقة لها ثم جلست تقرأ الرسالة وكأنها معها تسمعها تُلقيها عليها.
"عيدي يوم ولدتي أنتِ وليس يوم مولدي عيدي يوم زين الله الكون بوجودك به.
عيدي يوم أحببتني بلا شروط وأعطيتني بلا مقابل، فأصحبت حياتي عيد في كل يوم تنعم عيناي برؤية ابتسامتك، اليوم لن أحتفل بعيد الأم بل سأحتفل بنعمة أختيارك لي أمًا من قبل ولادتي، سأتذكر حنانك علي في كل مرة تهزني برودة العالم وجفائه لتدثريني بين أحضانك فتزول هشاشتي.
فأنتِ حبيبتي وصديقتي قبل أن تكوني أمي، زرعتي بداخلي القوة التي تؤهلني أن أواجه هذا العالم وحدي. زرعتي بداخلي بذور الحب والعطاء التي تهون علي عدم رؤية ابتسامتك كل يوم. زرعتي بداخلي الإيمان الذي يقوي ظهري حينما تعصف بي رياح الفتن، وبنيتي بداخلي ثقتي بقدراتي في كل مرة كنتِ تشجعيني فيها بأنني أقوى وأذكى وأقدر على فعل المزيد وعلى إلهام الكثيرين حتى صرت بكِ غنية عن العالم أجمع... لم أتخيل في يوم أنني قد أفقدك بهذه السرعة ولكن هكذا تكتب أقدارنا لتختبر رضانا حين نفقد أعز ما نملك، وأنتِ كنزي الذي لم أفقده بالموت بل صار بداخلي نبع من المشاعر التي يبثها الله ليمدني بالقوة التي تؤهلني أن أستمر...
فظللتي بداخلي تدفئي برودة الفقد وهوة التيه برغم دموع حنيني إليكي وإلى أمان أحضانك، تظلين قوتي في أيام ضعفي وإن لم تعد عيناي تراكي، فقلبي لا يغفل لحظة عن ذكرك وحبك وبرك، فقد كتب الله على قلبي أن يزرعك بداخله، كما كتب على قلبك أن تحبيني بلا شروط وتمديني بكل أسباب الحب والتضحية التي تصعب علي نسيانك أو نكر جميلك...
فستظلين زهرة بقلبي لا تذبل مهما مر الزمان، وسأظل شاكرة لفضل وجودك في حياتي مادمت أنفاسي تقاوم الحزن والقبح بحبك في هذا الزمان.
دمتي لي سند وفخر..
ابنتك المحبة"
تغلق الظرف ثم تضعه في درج المكتب وتطفأ الأنوار، ثم تغلق باب الغرفة الذي لا تطيق أن تراه مفتوحًا لتتذكر أنه لا يوجد أحد بداخله، بل هي تغلقه دائمًا وكأن والدتها نائمة أو تعمل بداخل الغرفة لتتغافل عن الحقيقة.
قد يُسيء البعض التعامل مع نعمة وجود أم حنون مُضحية في حياتهم، وقد يعتبرها نعمة مُسلم بها، ولكن في حقيقة الأمر لا يشعر بقيمة النعمة إلا من فقدها. ولا تزول مشاعر الفقد بمرور السنوات بل تنضج المشاعر ويتسع جدار الوعي لنفهم أن مافقدناه ليس بالهين ولكن ليس بيدينا سوى محاولة الاستمرار بشجاعة ومقاومة لكل ما يؤلمنا، لأن كل ما يهم هو كيف شعرنا وسط اختبارات الحياة، كل ما مررنا به أو ما سنمر به سيزول وسيبقى إيماننا بإننا في يد أمينة، في يد صانع الأقدار القادر على تبديلها وخالقها من الأساس، ليُرينا جمال قدرته في تحويل آلامنا العميقة لسعادة الرضا وظلام الوحدة لنور اليقين والأنس بوجوده حتى لا نعتمد على أحد سواه ولا حتى أنفسنا.
فالحياة ما هي سوى دائرة كبيرة ومغرية تُلهينا عن دورنا الأصلي في البحث عن مكاننا في الحياة، وما يسعدنا أن نفعله بإتقان، وما حل بقلوبنا حين يحدث عكس ما تتمناه. فيفوز من ينجح في فهم حقيقتها ويعاني من يلهث وراء قشرتها الذهبية المغرية.
كل عام وكل أم فخورة بما قدمته لأبنائها من عطاء وحب، وكل عام وكل ابن وابنة راضيين وباريين بما خطته لهم الأقدار ليصبحوا أقوى مما يتخيلوا برعاية صانع الأقدار لهم، فحتى من قُدر عليهم أن لا يكون لهم أم في حياتهم يعوضهم القدر بصورة أخرى وبشكل أفضل يناسب تكوين شخصيتهم التي يجب أن يكونوا عليها، فأفضل الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولد يتيمًا، ليُعده الله لمكانة أعظم. فهناك من يربيه الفقد على التخلي ليكون به أقوى وأقدر على العطاء، فالله كريم لا يبخل على عباده بأي شيء ولكنه يربيهم بما يصلحهم ويجعلهم على أفضل صورة حتى أفضل مما يريدونه لأنفسهم.
وأخيرًا كل عام وأنتِ حبيبتي وصديقتي ودنيتي يا أمي..
الكاتب
نجلاء اشرف
الإثنين ٢٠ مارس ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا