مباركة براهمي.. نائبة سيدي بوزيد و”جيش” زوجها الشهيد
الأكثر مشاهدة
"أنا زوجة الشهيد محمد براهمي" هكذا تعرف نفسها، فهي الزوجة التي حملت قضية زوجها بعد رحيله، ورفضت أن يطمسها توالي الأيام والسنوات، فهي زوجة الزعيم السياسي التونسي وأم أبنائه الخمسة، زوجة مَنْ استهدفته داعش لإشاعة الفوضى، بعد أن رتبت له جماعاتها الموالية، الزوجة التي تفخر بالزوج والأب والشهيد وتحاول أن تكمل مشواره محافظة على مجده السياسي، ودوره الاجتماعي.
مباركة عواينية براهمي، نائبة البرلمان التونسي عن ولاية سيدي بوزيد، قلب الثورة التونسية. سيدة تملأ مقعدها البرلماني، لا تخاف أحدا في قول ما تراه حقا، تتبع ما تمليه عليها مبادؤها، في مجلس النواب تقف أمام الظلم والفساد متحدية الوزراء والرؤساء، تتحدث بقوة وثقة وإيمان بالحرية والحق.
في "سيدي بوزيد"، ولدت مباركة في 7 يوليو 1967، ونشأت في أسرة كبيرة، فهي أخت لست سيدات وأربعة رجال، ووالدين، ناضلوا جميعا من أجل تحقيق الحلم برؤية "تونس حرة"، فالأب قاوم الاحتلال الفرنسي لبلده الخضراء، حمل سلاحا ورفض وجود المستعمر، تربت على الرفض، أخ يساري، وآخر يهتم بالسياسة ويطبع المنشورات، وأخت ترتدي الحجاب وترفض خلعه بعد امتناع أصحاب الأعمال عن توظيفها، فقديما في تونس لم يكن الحجاب مرحبا به.
لم يتعد عمرها الثانية عشرة حين كانت تطبع المنشورات وتوزعها، إما لمناصرة القضية الفلسطينية، التي لا يخلو خطابا أو حديثا لها من ذكرها، أو لرفض النظام التونسي، "كنا نستخدم الفحم ونكتب على الجدران (تونس حرة.. يسقط النظام)" حدثت مباركة "احكي" عن مرحلة تشكل وعيها في الطفولة والمراهقة، فرغم خوف الأب من خروج بناته في التظاهرات والإضرابات، كان متفهما "نشأت في بيئة متفتحة، فالأب يعلم معنى أن يكون الإنسان مؤمنا بقضايا وأفكار وينتصر لها".
على حب الوطن والانتماء له وحده، والحلم بتحرره، عاشت مباركة سنوات المراهقة، فلم تكن كمثيلاتها من الفتيات، لم تهوى سوى الحرية، لم تترك حراكا أو نشاطا طلابيا إلا وخاضته، فمن التظاهرات المنددة بالاحتلال الرئيسي والمساندة لفلسطين إلى التنديد بالعدوان الأطلسي على ليبيا، انضمت في أثناء دراستها الحقوق والعلوم السياسية إلى "الطلبة العرب الوحدويوين التقدميون"، التنظيم صاحب الهوى الناصري، الذي التقت فيه بالمناضل السياسي محمد براهمي.
تنبأ براهمي بزوال نظام بن علي وانهيار، صبيحة يوم 14 يناير 2011، خرج للتظاهر بصحبة ابنه عدنان، وبعدها بقليل اتصل بمباركة "اكتبي هذا البيان واطبعيه.. النظام ينهار"، لم تشعر مباركة حينها أن الأمر حقيقي، ولكنها فعلت ما قاله، وداخل مطبعة إحدى الجارات، كتبت البيان سريا وطبعته وجاء الابن ليوزعه، وكان الزوج على حق، فبن علي رحل وترك تونس تبدأ صفحة جديدة.
"كل واحدة يؤثر زوجها في حياتها، فكيف إذا كان محمد براهمي" تفخر مباركة بزوجها الشهيد، الذي اغتالته جماعات تكفيرية أمام منزله في تونس في نهار 17 رمضان، ويوم عيد الجمهورية التونسية 25 يوليو، رحل عام 2013 وترك لها الأبناء الخمسة، وإرث طويل من الكفاح السياسي، فالبراهمي كان معارضا رافضا لسياسات الأنظمة التي حكمت تونس، والمنسق العام للتيار الشعبي، شارك بـ "ثورة الياسمين" وبكتابة دستور بلاده الجديد، فكان عضوا بالمجلس الوطني التأسيسي، الذي كان يؤدي مهام البرلمان حينها.
تونس تعرف البراهمي جيدا، ويحفظ شبابها مشواره النضالي، وأسرته الصغيرة اعتبرت استشهاده "ثمن حرية تونس"، تزوجته مباركة بطريقة تقليدية، رأها فأعجبته، فتقدم لخطبتها، ووافق الوالد، "هو اللي ربّاني" يكبرها البراهمي بـ 12 عاما، فجمعهما منزلا واحدا وهي ما زالت في العشرين في عمرها، ومن بيت ملأته حكايات السياسة والمقاومة والوطن انتقلت مباركة إلى "بيت فتحه البراهمي على مصراعيه لكل صاحب حاجة".
في كلمات، حاولت مباركة أن تصف الرجل الذي عاشرته لأكثر من 20 عاما "رجل تقي، طيب إلى أبعد الحدود، حنون، شجاع، كريم إلى درجة الغباء"، تتذكر أياما عاد فيها إلى بيته دون معطفه لأنه وجد أحدهم يحتاج إليه فأعطاه له، ما معه ليس له، "كان ملكا للناس، ولمن يحبونه"، فنشأ أبناءه عدنان وبلقيس وفداء وسارة ومنتهى على أخلاقه، وأحلامه للوطن.
لا تنسى مباركة لحظة استشهاده، ففور خروجه من المنزل صبيحة هذا اليوم، سمعت طلقات الرصاص، وعلمت أن البراهمي هو المستهدف، خرجت لتجد أحدهم يحاول الفرار على دراجة نارية "بلقيس وعدنان ركضا نحوه، وظلا يرددا: بابا شهد (أي انطق الشهادتين)، وقالها ورحل"، رغم حزن الفراق أسعدها أن تكون آخر كلماته "أشهد أن لا إله إلا الله".
ونوت أن ترد له حقه "أصبح هدفي الثأر لمقتله من الجماعات التكفيرية في كل مكان بسوريا ومصر وليبيا"، كما رأت في توليها مقعده بمجلس النواب تكريما لمشواره السياسي "خضت الانتخابات حتى لا يأخذ مقعده فاسد أو آكل لحقوق الشعب"، وترشحت مباركة على رأس قائمة الجبهة الشعبية عن ولاية سيدي بوزيد في انتخابات البرلمان التونسي لعام 2014.
انقلبت الدنيا ضد مباركة، فهاجم أعضاء الجبهة الشعبية والكتلة الانتخابية التي تنتمي لها أن تترأس القائمة، ورفضوا أن تكون امرأة هي المتصدرة، وأصدروا بيانا يهاجمها، ولكنها خاضت الانتخابات بـ "صدق"، لأنها أرادت أن تنصف البراهمي، وتقدم لأهالي سيدي بوزيد ما يستحقونه، فحصلت على أصواتهم رغم الضغوطات السياسية وقلة الموارد المالية.
عبر مقعدها البرلماني تحاول أن تعمل مباركة وفاءا لأبناء سيدي بوزيد، جذوة الثورة وشراراتها الأولى، التي انطلقت في 14 ديسمبر 2010 يوم أحرق البوعزيزي نفسه، فتعتبر نفسها "بنت الفئات الفقيرة والمهمشة والمحرومة، وأحاول أن أعبر عنها"، تعترض على الميزانية التي تقدمها الحكومة وتعطل خياراتها "المملاة من الخارج من صندوق نسميه النهب الدولي (تقصد البنك الدولي).. تونس مش عارفه تتحرر بسبب عدم وجود إرادة سياسية".
بعد رحيل البراهمي، أصبحت الأب والأم لأبنائها، ورغم خوفهم على حياتها، وحرصها على حياتهم، تعتبر مباركة ما تقدمه وأولادها ثمن قليل حتى يتحقق لتونس ما يحلمون به، "تربى الأولاد في ظل عائلة موسعة من الأعمام والأخوال تؤمن بالعمل السياسي وتمارسه"، تعرضت ابنتها للتوقيف من قبل الشرطة مرتين، وفي إحدى التظاهرات تعرضت ابنتيها للإصابة ودخلتا المستشفى "رغم أني كأم أخاف من العنف والتحرش في مراكز الإيقاف، لكن لا بدّ من ثمن، فهو خيار نتحمل مسئوليته"، فلا يمكنها أن تمنع أبناءها عن ممارسة أشياء رأوا والدهم ووالدتهم يقومان بها "معندناش حضن غير تونس ندفع له كل شئ".
عندما قالوا تزوج من تكون جيشك الوحيد، كانوا يقصدون مباركة، فهي امرأة قوية وزوجة وفية استطاعت أن تكون خير خليف لزوجها، ولكنها تحمل قلب أم، رغم ما تبدو عليه من جسارة وجرأة، وكأنها لا تخشى أحدا، لكنها صاحبة قلب طيب وحنون. منذ أربع سنوات احتاجت مباركة إلى من يساعدها في أمور المنزل ويقيم معها بسبب ظروف عملها بالبرلمان وسفرها المتكرر، فرُزقت بأحلام، كما تحب أن تقول، وتعتبرها "صندوقي الخاص، وابنتي السادسة التي لا أتحمل عليها شئ، وأكن لها معزة خاصة"، التي تعينها على إدارة المنزل، ومراعاة ابنتها الصغرى منتهى، المصابة بالتوحد.
التقت "احكي" بالنائبة التونسية في مؤتمر إقليمي تابع للمجلس القومي للمرأة، تحدثت خلاله عن الإنجازات التي تحققت للمرأة التونسية، من وصول نسبتها بالبرلمان إلى الثلث، إلى جانب وجود 3 وزيرات وسيدة بمنصب محافظ، ولكنها ترغب في أن يتم مراجعة قوانين الأحزاب، ويصل تمثيل المرأة بهيئاتها ومكاتبها السياسية مناصفة، حتى تقترب نسبتها في البرملنا أيضا من النصف، متمنية "أدعو الله أن يمنح تونس الأمن، وينصف الشباب اللي عمل الثورات وسُرقت منه، وتؤثر المرأة في الحياة السياسية".
الكاتب
هدير حسن
الأربعاء ٢٩ نوفمبر ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا