الاستاذة عائشة تحكي: حبيت التاريخ حتى أصبحت ”عانس”
الأكثر مشاهدة
إن مُعلمينا هم الذين يعطوننا الطريقة لنحيا حياة صالحة.. فقم للمعلم وفّه التبجيلا... كاد المعلم أن يكون رسولا.
أحد أبطال مسرحيتيّ «قضية ظل الحمار» و«1980 وأنت طالع»، محمد طنطاوي كان طالبًا بكلية الألسن لسبع سنوات، إلا أنه "ملقتش نَفسي في ألسن فحوّلت لدراما"، وأصبح طالبًا بكلية الآداب قسم دراما ونقد مسرحي، ثم مخرج مسرحي فممثل.
طنطاوي لم يبدأ حياته الفنية من خلال مسرح الكلية كما يعتقد البعض، لكنه بدأ المسرح والتمثيل منذ نعومة أظافره، وذلك ليس لانتمائه أو اقتداءه بفنانٍ ما بعائلته "أنا مثلت وأنا في ابتدائي مع اول حصة دراسات ليّا.. مع المُعلمة والأستاذة الرائعة عائشة".. نعم فمن جعله مُمثلًا يتحاكى به النقاد... مُعلمة ابتدائي.
سامي أحمد، محرر شئون إسرائيلية في موقع «إحتلال»، كاتب في «القدس العربي»، وطالب بكلية أداب عبري "زي ما محمد محسن بيقول.. بحبك من زمان جدًا.. انا بقى بعشق الكتابة من زمان جدًا". سامي بدأ عمله بالصحافة مؤخرًا، لكنّه كاتب من زمان جدًا "أنا بدأت كتابة في 4 ابتدائي ومع أول حصة دراسات ليّا مع الجميلة عائشة عرفت إني كاتب".
شيرين سعد، كاريكاتور وناقدة مسرحية "فترة الطفولة من الفترات المهمة جدًا في حياتي"، كانت لطفولتها المُتأخرة تأثيرًا عظيمًا على حياتها، خلالها تعلّمت على يد الأستاذة عائشة "الجميلة عائشة هي من حببتني في التعليم واكتشفتني كما اكتشفت كثيرين غيري ".
السابع والعشرون من أكتوبر أو قبل ذلك بثلاثة ايام، في أحد الصباحات، صباح ينطبق عليه قول هدى حداد بأن "الشمس فيها كانت شارقة ووالعة"، داخل ساحة "حوش" مدرسة ملحقة المعلمين الإبتدائية، صمت تام وتلاميذ تقف منتبهة لعرض مسرحي "بطابور الصباح".. نعم، فلقد نجونا من عذاب "الطابور" الصباحي وتمارينه المعتادة.
الرواي: تجرى أحداث هذه القصة في ذلك العهد القديم، الذي أطلق عليه علماء التاريخ اسم (العصر العتيق). وهو يشمل الأسرتين الأولى والثانية من تاريخ مصر القديمة. والملك مينا بطل هذه القصة هو أول ملك في تاريخ الأسرة الأولى، ويرجع إليه الفضل في توحيد البلاد ودفعها إلى مدارج الرقي والتقدم.
ينتهي عرض "موحد القطرين".. تصفيق حماسي.. تلاميذ يأخذن بيد مُعلمة لتخرج من الكواليس وتحيّ طلابها وجمهورها في الوقت ذاته.
يوم الأربعاء في مدرستي الإبتدائية، الحصة الثانية -حصة الدراسات الاجتماعية-، أفكر في سؤال ما ولا أجد له جوابًا، أرفع يدي لأسأل المعلمة وتسمح لي، أقف لأصيغ سؤالي بطريقة واضحة، احنا ليه مبنحفظش؟".
فتنظر لي بعيون وابتسامة صافية وتجيب: "المسرح أبو الفنون والعلوم؛ ولأن التاريخ جزء من فن التراث وأحد علومنا فلِما نحفظه ومتاح لنا تجسيده ومعايشته".
نعم نحن نجسد تاريخنا، اتذكر جيدًا يومها الأول معنا كمُعلمة دراسات اجتماعية، الحصة الخامسة – وما أدراك الحصة الخامسة مع تلامذة ابتدائي- فغالبًا ما نكون خارج فصولنا أو نلعب ونجري داخلها. الفصل يهدأ رويدًا رويدًا وأنا اتسائل ماذا يحدث؟ أنظر خلفي لأجدها تقف بعيدًا عند باب خشبي يبدأ به فصلنا، وبوجه صارم بشدة تنظر إلينا.. محتضنة يدها عند صدرها.
يهدأ الفصل وننظر إليها بخوف، فتنتقل إلى "السابورة" وتقول بصوت ناعم صارم "خلاص خلصنا لعب وهزار؟" فيرد بعض الطلبة الشجعان "أيوة خلصنا". ومع تداول بعض الضحكات بيننا، تنظر مرة أخرى إلينا شذرًا، وتقول: اسمي عائشة مُعلمة الدراسات الاجتماعية، ولحظكم السىء "أنا اللي هديكم دراسات في السنتين".
في مدرسة ملحقة المعلمين الابتدائية بالقليوبية، عائشة محمد متولي "مُدرسة رياضة ودراسات عبّال ما يجيبوا مدرس دراسات"– لم يكن يهزأ منّا أبدًا يوسف عيد (ذكريا الدرديري) حينما ذكر دوره كمدرس رياضة وفرنساوي في فيلم الناظر – فهكذا كانت عائشة.
"عملت كمُعلمة دراسات في بدايات حياتي المهنية، ولن أكذب عليكِ فكنت مرتعبة بداية الأمر، فماذا أفهم أنا عن الدراسات كي ادرسها؟ لكنني لم أجد مفرًا من تدريسها؛ فبدأت أذاكرها جيدًا وكنت قارئة جيدة طوال عمري للتاريخ.
ورغم ذلك كله ظللت مُرتعبة، فماذا أفعل إذًا؟ كيف أدخل على بعض التلاميذ بوجه مُرتعب، وخلال تفكيري في حل لمشكلتي كمُعلمة جديدة غير متمكنة من المادة، بدأ مسلسل "هركليز" على القناة الثانية المصرية متخذًا التاسعة مساءً كميعاد يومي له.. "وهنا جتلي الفكرة المُنقذة".
"صباح يوم دراسي جديد، بدخل على الطلبة بالفصل وأنا في موقف ثقة كاملة، وبإحدى يدي حقيبة مليئة بأدوات عمل للطلبة من أوراق ملونة وأقلام وبعض ادوات التمثيل النموذجية.. صباح الخير يا أولاد".
في بداية الأمر لم تكن فكرتي "المُنقذ" كما اعتقدت سابقًا، فالتلاميذ لم يتقبلوا فكرة تقسيمهم لمجموعات وخلق مجموعات عمل منهم؛ لتقوم بإعداد دروسنا وتحويلها لمسرحيات نجسدها، وكانت بدايتنا «الملك مينا-موحد القطرين».
أما عن الصعوبة الأكبر فكانت من قِبل إدارة المدرسة من مُشرف مادة وموجه عام ومدير مدرسة وزملاء مادة ..الخ.
وهناك البعض منهم اعتبرني "بجُر رجل العيال لدروس خصوصية بخدعة إني مبشرحش في الفصل وبنلعب ونمثل".
وبعد معاناة ومحاولات عديدة لإقناع إدارة المدرسة من جهة، والتلاميذ وأولياء الأمور من جهة أخرى، بدأ التلاميذ في الاستمتاع واكتشاف مواهبهم بأنفسهم. وجاء مُعلم جديد للموسيقى بالمدرسة، وكان عاشقًا للمسرح، وبدأ بالفعل يساعدني هو أيضًا. كما أنه - لصلة القرابة بينه وبين المدير- تمكّن من إقناعه أخيرًا، ولم يكتف بذلك فقط بل قررت إدارة المدرسة عرض اول مسرحية ننتجها «موحد القطرين» في الطابور الصباحي للمدرسة.
وبنهاية الفصل الأول، كنا قد عرضنا 3 عروض مختلفة ونجحنا. ولم يقتنع الجميع بنجاحنا في ذلك اليوم فقط، بل عندما حدث، ولأول مرة بتاريخ المدرسة، أن يحصل 3 فصول كاملة بكل تلاميذها على الدرجة النهائية في مادة الدراسات الاجتماعية.
نعم.. تفوقوا بالتمثيل واللعب فقط دون حفظ ومذاكرة تقليدية.
نجلس في صمت تام مُدة من الزمن، لتستكمل حديثها قائلة "مش هقولك إني محققتش نجاح بعد ما أثبت نفسي وفكرتي خلال عروضي الأولى"، ولكن نجاحي المستمر جعلني انسى السنين اللي بتجري من عمري، وصلت لآواخر العشرينات.. أدخل الثلاثينات.. اتخاطها.. بداية الأربعينات، وأنا لم أتزوج بعد".
"عقلي وكياني وروحي كلها انشغلت بالفن والمسرح والتاريخ، وخلق أجيال ومواهب حقيقية من الطلبة الصغار، ولم ألاحظ عمري إلا قريبًا حينما اتوا بمُعلم دراسات جديد؛ لأصبح أنا مُعلمة رياضيات كما كان يُفترض قديمًا".
"مُدرسة رياضة.. بس أنا مبقتش بحب الرياضة.. طب سيبوني دراسات معاه ونقسم الفصول علينا.. طب ده أنا عمري جري بسبب الدراسات، معنديش عُمر تاني للرياضة". لكن وببساطة الإدارة قررت وانتهى الأمر كما قررت وانتهى مسبقًا، "وبقيت مُدرسة رياضة تقليدية عانس".
الكاتب
حسناء محمد
الخميس ٢١ يناير ٢٠١٦
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا