إيمان الناظر تكتب: حديث صامت!
الأكثر مشاهدة
كل شئ أشعر به يذكرني بموقف.. مثل تلك الرائحة الكريهة للفنيك التي تمتزج بعرق الأطفال و فضلاتهم.. تلك الرائحة القاسية تذكرني بالحضانة التي كنت فيها.. حضانة رأيت فيها العجز و الفقر و الغربة و الوحدة.. رأيت فيها حقائق أخفتها المدرسة التي كنت بها.. شتان بين المدرسة و الحضانة..
أنتمي إلى مستوى ثقافي و اجتماعي متوسط لا ينتمي لا للمدرسة و لا للحضانة.. شتات.. تذكرني تلك الرائحة بكثير من المواقف و الأطفال.. بغضب طفل في مثل عمري أو أن الفارق بيننا لم يكن كبير.. كان جورج يسمع و ينطق بيديه.. و على الرغم من جهل أذنيه بصوت الكلمات إلا أن نظره كان يتخلل إلى أعماق الناس.. كان يراني بوضوح.. كنت أخشاه لأنه كان يضرب الجميع.. و لكنه لم يقربني ولا لمرة واحدة.. رغم أنني كنت واضحة جدا له.. تحت مرمى بصره.. دائما ً.. لم يمسني بسوء أبدا ً..
في يوم ما, نظر إلىّ مباشرة.. في عينيّ.. لم يجفل لحظة.. شعرت في عينيه بدفء و كأنه يطمئنني بشكل ما.. شعرت أنه أكبر مما يبدو عليه.. و شعرت أن كل ما كان يفعله ما هو إلا طريقة اتبعها ليفرض وجوده.. ليُسمِع العالم أنه قادر على التحادث رغم الصمت الذي يطبق على حياته..
و ذات يوم, قررت المعلمة أن تأخذ قيلولة أثناء الحصة.. فسلـّمتني عصاها التي اعتادت تهويش الأطفال بها.. و نامت.. و يا للسلطة التي كانت تمكث في حركات العصا التي أمسكت بها.. و يا للخوف الذي سيطر بالتبعية على جميع الطلاب – ما عدا جورج بالطبع – و طالب آخر تجرأ على العصا فضربته.. فبكى بكاء ً أزعج المعلمة.. فاستيقظت و لامتني على ما فعلت مع زميلي محاكاة ً لها.. و في الواقع, لم تكن السلطة في هذا الموقف مدعاة لشئ إلا الجُبن فلأنني كنت جبانة, ضربت من هو أضعف مني و لم أملك الشجاعة الكافية لمواجهة الأمر فأنكرته و لكن.. هل ينكر الإنسان الحق بينه و بين نفسه؟!
كرهت نفسي حينها و لم أعتذر لزميلي فازددت استياءً مما فعلت و اكتأبت أكثر.. و ذهبت لأجلس في مكاني أحبس دموعي و غربتي في هذا العالم.. و حين رفعت عيني, رأيت جورج الذي رأى الموقف من بدايته و كان واقفا ً فوق المكتب, نظر إلى و كأن عينه تكلمني.. لم يكن في نظرته لوم و لا نقد و لا حتى تحية و تشجيع على ما فعلت من عنف يشبه ما يمارسه على الآخرين.. نظر إلىّ بتفهم و شفقة و كأنه يقول لي: "أفهمكِ!".. ثم جاء ليجلس بجانبي و كأننا التقينا في تلك النقطة بالذات..
جورج قلبٌ اضطر لخوض معركة الحياة.. معركة أتذكرها كلما شممت تلك الرائحة الكريهة.. فالكثير من الأشياء الكريهة تحمل في ثناياها ذكريات فريدة من نوعها.. جميلة!
الكاتب
إيمان الناظر
السبت ٠٥ مارس ٢٠١٦
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا