سارة بيصر تكتب : في تفاصيل العشق والألم
الأكثر مشاهدة
(1)
كانت الشمس تلملم ثوبها الأرجواني من أفق السماء، أخذةً في الغياب، جلس هو وهي على إحدى المقاعد المقابلة لأمواج البحر التي كانت كأنفاسهما تعلو وتهبط، يجهزا كلمات تليق بوداعهما ، أخبرته أن سفارة بلدها تقوم بتخفيض عدد رعاياها العاملين بمشاريعها في مصر بعد الأحداث التي تلت الثورة، وأنه طلب منها المغادرة .
قال لها محاولاً اظهار التماسك: هذا إجراء روتيني يحدث عادةً بعد الثورات، ولابد أن الأمور ستعود لطبيعتها بعد شهور قليلة.
قالت له : أتمنى هذا .
وانتابهما لحظات صمت وحيرة، قطعتها يداها الممتدة إليه بهاتفها المحمول ، وصوتها الذي يطلب منه أن يسجل لها كلمة بصوته وصورته تتذكره بها، وتراه حين تشتاق إليه في الغياب .
مد يده إليها وأخذ منها الهاتف ، حاول أن يلملم صوته المبعثر ، أعاد رسم ابتسامته ، وتهيئة ذهنه لإعداد ماذا سيقول.
كان صوت الصمت أقوى بداخله من صوت الكلام ، فللصمت تاريخ بحجم كل ما قيل من كلمات، لم تسعفه كلماته المنهكة ، إلا لتقول لها : سأشتاقك عزيزتي ، أتمنى لكِ التوفيق والسعادة.
أما صمته فقال لها أحاديث وأحاديث ، قال لها :
أتعرفين أنني أحبك كثيراً ، وأنكِ كنتِ أول من تفتحت بتلات الحب في قلبي لأجله، وأنني لا أتصور حياتي من دونك ، بعدما ستفصل بيننا هذا الكم الهائل من البلدان بتضاريسها وبحارها ومحيطاتها .
لقد كنت أعشق عنايتي بكِ ، أعشق تفاصيلك الصغيرة، وابتسامتك.
سأفتقد جنوني وانطلاقتي التي لم تجد طريقها إلا معك ، حين كنا نسير في تلك الليالي الشتوية الهادئة ، نضجّ بحكايانا وضحكاتنا صمت الأرصفة ، ونوقظ نجوم الليل الهاجعة .
أشعر أن الطرقات ستكون باردة من دونك ، وأن عالمي سيتغير ، وقلبي سيتواري في غيامات الشجن ، سأشتاقك كثيراً ، سأشتاقك بحجم السماء ، وسأنتظرك حتى تعودين .
لم يدرك وقتها، أن الانتظار هو ذاك الشعور الذي سيجعله يعد الأيام والشهور والسنين ، يرتقب الذي يظن أنه سيأتي ، يعلق لحظات فرحه عليه، غير آبه بغبار السنين الذي يتراكم فوق عمره، وقلبه، فيفقده بريقه ، أو بأحلامه المؤجلة المرهونة على أبوابه .
(2)
اِلتقيت به، لقاء عابر، لم يتعدى وقته بضع لؤلؤة صغيرة من عِقد أيام حياتي. لكني، مازلت أذكر ذلك الشاب الذي أتى من بلاده البعيدة مع والدته، لحضور تكريم أدبي لها في مصر، فقد كان ضجيجه يسبقه ، وتعليقاته الساخرة تثير الدهشة ، وابتسامته تملأ وجهه . لكن ، ابتسامته على الرغم من اتساعها إلا أنها ابتسامة غادرها الفرح ، وأنه على الرغم من ضجيجه إلا أن عينيه صامتة كبحر يحمل أوجاع مدينة غارقة حلت بها النكبات ، فقد كانت نوستالجيا حب قديم في حياته يتغذى على سعادة روحه ، ويُطفِئ ألوان البهجة في قلبه .
لوعة الحب بداخله كانت مليئة بكل التناقضات ، حب وكره ، وأناشيد فر ، وذكريات عشق ، وطعنات غدر ، وأصوات أبواق انتقام ، وناقوس حنين يدق في ذاكرته ، يأبى أن يتركه للنسيان .
ذاك الحنين الذي يجعلنا لا ننسى ، ونحيي ما مات من مشاعرنا وذكرياتنا لنبكي من جديد فوق أطلالها، مهما اختلفت الأماكن والأزمان.
(3)
كان الجو بارداً، والسماء ماطرة، كنت ألمحها من خلف النافذة بجسدها النحيل تجلس مع بعض الرفاق في الخارج، يضحكون ضحكاً هستيرياً، ويتحدثون بصوتٍ عالي، ويغنون، تملكتني بعض الدهشة، شعرتُ أنني أمام طقساً للرقص الأفريقي، حين تعلو أصوات الطبول والأبواق، وتهتز الأجساد بعنفٍ في طبيعة ضارية، في الظلام والبرد والرياح ، وكأنهم يفرغون بممارسة الجنون كل طاقات الخوف، أو يتناسون آلامهم وأحزانهم.
أغلقت ستار النافذة ، صنعتُ كوباً من الشاي، وجلستُ أحتسيه، على أنغام صوت فيروز الدافيء.
فجأة سمعت طرقات الباب، فتحته ، فاندفعت إلى غرفتي ، قالت لي : أتعرفين أنني أبحث هنا في الأسكندرية عن طبيب نفسي.
قلت لها، باستغراب: ما الداعي لذلك.
قالت لي : لقد فكرت في الانتحار كثيراً، أنا أكره حياتي، وأكره كل الرجال، أتعرفين؟! لقد أحببت بكل وجداني، سنتين كنت مخلصة له بكل ذرة من ذرات قلبي، وفي كل نبض من نبضاته، حتى فوجئت بخيانته، تركني وخطب فتاة أخرى، كدت أن أصاب بالجنون، قلت له: أن يبقى، يبقى حتى لو سأكون زوجة ثانية، كان الأمر مُراً. لكني، كنت أريد بقائه على أي حال، فلم أكن لأقدر على الغياب.
لكنه، تركني، تركني لشقاء بعد شقاء، لم أجد من يهدهد روحي، والدي كان يضربني، كان يضربني بشدة، مازلت أذكر ركلاته لي ذات مرة التي لم تبرح مكاناً في جسدي، والنزيف الذي أصبت به بعدها، وشكوكي.
حتى هو يخون والدتي، سمعته ذات يوم يحدث أخرى في الهاتف. كلهم خائنون، كلهم لا يمنحوننا إلا مذاق الخذلان.
لم تنتظر لتسمع مني أي تعليق، أفرغت حملها الثقيل، وحملت معطفها، واصطحبت الباب في يدها، ورحلت.
وبعد لحظات سمعت أصوات الضحكات يعلو في الخارج من جديد،
بينما بقيت أنا أفكر: هل لهذه الابتسامات التي غادرها الفرح، المرسومة على الشفاة دون أن تمتد جذورها للقلب، من سبيل لتنير وترتسم في القلب من جديد ؟!
حياتنا بالتأكيد ليست سهلة بما يكفي ، فهناك المنغصات والعقبات ، وهناك تلك القلوب التي ضجت بالخيبات والخذلان ...
لكني ، أؤمن أن الله منحنا الفرح ببذخ ، السماء التي تتلألأ بالنجوم مؤنسةً ليالينا ، وذاك القمر الساهر يعزف سيمفونية الجمال ، ويلقي بظلاله الساحرة على سطح البحر ، تلك الزهور المتوجة بالندى ، والتي تلونت أثوابها ، وتعطرت بأريجها الآسر ، وعانقت النسمات . كل المنمنمات الصغيرة في هذا الكون مفعمة بالجمال ، وكفيلة بأن تمنحنا البهجة .
لكننا نحتاج فقط إلى أن نتعود أن ندلل أنفسنا ، أن نقول لها : كم هي جميلة وقوية ، وبامكانها أن تحيا سعيدة ، دون أن تعلق سعادتها على أحد.
فالحب هو سيمفونية متناغمة ومتكاملة يعزفها اثنين بأرواحهما ومشاعرهما وأفكارهما، ونحن لا نحب لنشقى. لكننا، نحب لنمليء حياتنا وداً ورحمةً وهناءً.
أو لنعيش على أعتاب الماضي ، فأجمل الأيام التي سنعيشها هي يومنا الذي نرسم خطوطه ونلون لوحته بأيدينا ، هو ذاك اليوم الذي سنقرر فيه أن نستمتع بيومنا ، ونكسر كل الحواجز التي بداخلنا ، والتي وضعت حولنا فحالت بيننا وبين إشراقات شمس الفرح في قلوبنا ، لكي ينير كل ما أطفئ بداخلنا ، ويبعث فينا كل جميل كانت تمتلكه أرواحنا .
الكاتب
احكي
الخميس ٠٢ فبراير ٢٠١٧
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا