”مي وحميد”.. الخزف والألوان بيدي زوجين آمنا بالفن
الأكثر مشاهدة
ندى بديوي- هدير حسن
مختلفان درسا الفن فجمعهما منذ 12 عامًا، قاهرية تعمل أستاذة للفنون التطبيقية، وصعيدي حصل على دكتوراه في صناعة الخزف من نفس الكلية، أسس الفن بيتهما، وتكفلت الحياة بصقل علاقتهما كما موهبتيهما، ثم أكمل أحدهما الآخر، بدمج مهارته في تشكيل الخزف، مع قدرتها الفذة في الرسم، من خلال مشروع The Art Of Mai & Hameed الذي دشناه قبل حوالي عامين، ليبدعا سويًا تحف خزفية فيها من روحيهما، ويقدما مستحدثًا لصناعة تعد رفيق الإنسانية منذ فجرها، وناقل أمين لحضاراتها على مر العصور.
دُون السطر الأول في حكاية مي ندا حين أمسكت الأقلام، فعرفت الرسم قبل الكلام، انتقاها القدر من قلة مصطفاة، منحها البوصلة ومهد طريقها، وبسببها تسرب الفن إلى بيت الجراح وطبيبة النساء، فسحرتهما مَلكة ابنتهما واتصال موهبتها باسم الله الواهب، فاستثنياها من طريق الطب والهندسة الذي خططاه لبقية الأبناء، وألقيا مرساتها عند ميناء الرسم كسبيلها العملي الأوحد، لدرجة تخصيصهما شقة في بنايتهما ستصبح "أتيليه مي" فيما بعد، "أهلي علميين جدًا عمرهم ما راحوا الأوبرا، لكنهم اهتموا أني أبقى رسامة وماسمحوش لحد يشوش ده عندي".
مع الوقت أصبح الرسم مرادفًا لحياتها، تهيم في عوالمه الملهمة وتعود بقبس تحيله إبداعًا على الورق، يحول انطوائها بين انتشاره خارج دائرة عائلتها، ويؤدي هيامها إلى تلألأ موهبتها، وتراجع مستواها الدراسي، في غير مادة الرسم التي لم تفرط في علامتها الكاملة يومًا، لكنها تبلغ مجموعًا يؤهلها إلى دراسة الفنون الجميلة أوالتطبيقية، فتفضل الأخيرة.
في بيئة جبلية، نشأ عبد الحميد عامر داخل إسنا بواحدة من أقاصي قرى الصعيد، حيث لا يعرف أهلها كثيرا عن الفن وفروعه، رغم مواهبهم المدفونة التي يقتلها قلة الإمكانيات والاهتمام، كان الأصغر بين أخوته، وضع كلية الطب هدفا له، "البلد كلها متعرفش في الكليات غير هندسة وطب وتربية" فكان البديهي أن يدخل كلية القمة، ولكن تفاوت طفيف في درجاته يحول دون ذلك، فرأى في كلية السياحة والفنادق فرصة يمكن اقتناصها "لقيت واحد قريبنا بيقولي حرام" فآثر السلامة ودخل كلية العلوم.
اقرئي أيضًا.. مي زين الدين.. والدة المصري المحلق في روسيا
أنصتت لصوت بداخلها يخبرها باختيار الفنون التطبيقية، وما إن وضعت قدمها بالكلية حتى أحستها بيتها، وكأنها عاشت في تلك الأروقة عمرًا من قبل، وأدركت صواب الاختيار حين بدأت في تعلم أسس التصميم بعد تشبعها بتقنيات الرسم، "فنون تطبيقية بندرس فيها علم الرسم، فنون جميلة الفن للتعبير وللجمال، في تطبيقية الفن للحياة"، تبدل حالها كليًا، فمن ظلت في مرمى الإلحاح والمطالبة بالمرور على الكتب الدراسية في الثانوية ولو قليلًا، أصبحوا يترجونها التوقف عن المذاكرة والتحديق في الكتب لساعات، "لما دخلت الكلية كأن حد نفض التراب عني، حتى النظري كان على قلبي حلو"، واستقرار الفن في شغاف قلبها، سهل طريق انفرادها بمقدمة ترتيب دفعتها لسنوات، وعاونتها أمها حتى تغلبت على رهاب الناس والانطوائية، فاقتطعت من وقت العمل والأسرة وصاحبتها إلى الجامعة أيامًا، ونجحت في مهمتها، فصغيرتها المنزوية ستصبح أستاذة تقف على تعليم طلابها لساعات دون كلل.
اقرئي أيضًا.. رحلة أسماء أبو اليزيد من أتيليه المسرح إلى ليالي أوجيني
لم يكمل عبد الحميد عاما دراسيا في كلية العلوم بجامعة أسيوط، "رائحتها معجبتنيش" وقرر أن يلتحق بالثانوية العامة مرة ثانية حتى يتمكن من اللحاق بالطب، ولكن يبدو أن القدر رتب له أمرا آخر، فلم يلتحق بالكلية التي أرادها، ولم تسعفه درجات اللغات الأجنبية لدخول السياحة والفندق، فيقرر أن يصبح مثل "علي البدري" بطل مسلسل "ليالي الحلمية" ويلتحق بكلية الفنون التطبيقية، التي لم يسمع بها أهل قريته من قبل، ويدرس فيها الخزف، ويقابل شريكة المشوار والحلم.
تقاطعت الخطوط المستقيمة حين التقى طالب الماجستير بالمعيدة المُعينة حديثًا، تعرف عليها عن طريق صديقتها، ومكث 6 سنوات في الظل، معجب يكتم مشاعره، واتته الشجاعة وطلبها من والدها، فرفضته عام كامل، تدخلت والدتها التي أحبته، فتزوج ابن الجنوب والجبل صاحب التقاليد الشديدة، من ابنة العاصمة "دلوعة والدها" بعد أن اقتنعت أنه يحبها وأنها ليست "أي عروسة وخلاص".
موهبتها وقدرتها على مزج الخطوط والألوان، أمر لم يكن عبد الحميد يعرف به، فمع أول زيارة لبيتها، اصطحبته والدتها، وكشفت عن إحدى لوحات ابنتها، لتجعله يقسم محافظا على الوعد "لازم تقف جنبها عشان تكون أحسن فنانة في العالم"، وكعادته التزم الصعيدي بالعهد "موهبتها تنافس دافنشي، وأنا قدها وهوصلها للعالمية".
"وإذا الدنيا كما نعرفها" -كما تقول أم كلثوم- فحياتهما لم تكن سهلة في البداية، "الخناقات ماكنتش بتقف"، ودفعهما ضيق ذات اليد مع ولادة طفلهما الأول عليّ، إلى السفر نحو السعودية بعد حصول الدكتور عبد الحميد على فرصة للتدريس بجامعة الطيبة في المدينة المنورة.
الظروف التي أجبرتهما على مغادرة مصر، امتنا لها بعد ذلك، فبُعد المسافة عن الأهل، قرب فيما بينهما، وأزال الكثير من الحواجز "حسيت إني مليش ظهر غيره وكل حاجة بقت توصل لحل وسط، ولما عييت ماما كانت عايزاني أرجع مارضيش وكان بيعمل كل حاجة".
عاشا في المدينة المنورة نحو 7 أعوام، لم يكن عبد الحميد يستأثر النجاح والعمل لنفسه، ولكنه كان العون والسند والدافع لتختبر مي موهبتها بأدوات جديدة، فمرة يحفزها لاستخدام كاوية الحرق على الخشب في عمل لوحات فنية، في البداية تمتعض وترفض، ولكنه كان يعرف الطريقة التي تجعلها تخضع وتحاول، فأتقنت لوحات حرق الخشب واشتركت في معرض بالمملكة مع ثلاث فنانات سعوديات أخريات، وبدأ نجمها يسطع وتظهر قدراتها.
آمن عبد الحميد أن زوجته تحمل داخلها الكثير، ومنح لها الوقت وأفسح لها المجال، وحمل على عاتقه مسئولية أن يجعلها تخرج من حيز الرسم بالرصاص والجاف إلى براح الألوان، فاشترى لها ألوانا وخامات بمبلغ فاق الألف ريال، ورغم الرفض الذي أبدته، كان عبد الحميد يعلمها أكثر من نفسها، وعرف كيف يجعلها تقبل وترسم بالألوان الزيت، وتتغلب على خوفها من التجربة.
عملت مي برفقة زوجها في كلية البنات بالجامعة، ودرّست التربية الفنية، نجاحها وفنها والمعارض التي شاركت بها وأحدثت من خلالها نقلة في الدراسة بالجامعة، حفزت الفتيات السعوديات على الدراسة بالكلية، ولم يكن لهذا أن ياتي إلا بدعم ودافع من الرجل الجنوبي، "كان بيستناني قدام الجامعة مع الأولاد في العربية، ويناموا فيها إذا اتأخرت، من غير ما يكون متضايق أو غضبان" حتى أنجزا كل ما يحتمله الحيز الفني في المملكة وقتها، وأدركا أنه لا مجال للمزيد "لما حسيت أنه ممكن موهبتها تتدفن هناك كان لازم نرجع" فعادا لمصر حيث المجال أرحب وإن كان التحدي أكبر.
اقرئي أيضًا.. الشغف وقود ماريز دوس للجري نحو أحلامها
مي وحميد يبدأن مشروع صغير ناجح
كل ما استطاعا تحقيقه علميًا وعمليًا، شجعهما على إنشاء معرض يجمع أعمال الدكتورة بدار الأوبرا، والذي انبهر حضوره بالمستوى الذي وصلت إليه، وبتنويعها في تقنيات الرسم التي حصلت على الدكتوراة فيها، وأوحوا لهما بفكرة جمع ما يبرعان فيه تحت مظلة عمل واحد، فيصنع الدكتور عبد الحميد الخزف، وتزينه الدكتورة مي برسوماتها.
تدخل القدر بترتيب خطوات نجاحها، فجهزا "الأتيليه" المكتوب باسمها منذ صباها، اشترى الدكتور أدوات الصناعة وجلب الأفران والطين، وبدأت الدكتورة في التطبيق عليها، إلى أن جاءتها مكالمة من الكلية تطلبها لإعطاء محاضرة في المعرض الدولي للصناعات اليدوية (IHS)، فأحبت الاشتراك بمنتجهما معًا.
"عالم تاني" هو الوصف المناسب لما وجداه في معرض IHS، مساحة ضخمة تضم مئات العارضين وعدد كبير من الزوار الذين لم ينتبه أحدهم للزوجين وأطباقهما الخزفية، فتسلل الإحباط لمي وركنت إلى طبق ترسم عليه، مفرغة شحناتها السلبية في أحب الأعمال إلى قلبها، ساعدها عبد الحميد مجهزًا الألوان كما العادة، وما إن بدأت بوضع الخطوط الأولى حتى استحوذت على أنظار المحيطين، وتجمع أعداد كبيرة منهم حولها، من هنا هطل المطر على فكرتهما، وحفر الأرض لها ليربط جدولي موهبتيهما، صانعًا نهرًا أكبر، فحلما بلافتة تجمع اسميهما، وتحتها أعدادًا من منتجات شتى، "السنة اللي بعدها خدنا مكان كبير 12 متر، مكتوب عليه The Art Of Mai & Hameed "، اتفقا على الاسم بعد شد وجذب و"مناكشات" كثيرة، فمي وإن أقرت أن 95% من مجهود المشروع يرجع لزوجها، فلم تتنازل عن وضع اسمها أولًا، ووضعها عبد الحميد في المقدمة عن طيب خاطر، مستمرًا في كونه أكثر من آمن بها من الناس.
اقرئي أيضًا.. كابتن أوشا من كرة القدم إلى حلم أشهر مدربة جيم في مصر
قبل أن تلمس اليدين قطعة الخزف الموقعة باسمي مي وعبد الحميد، ومطعمة بألوان وخطوط رُسمت بدقة وعناية وحب، كانت فكرة في خاطر الدكتور يضع سيناريو لتنفيذها يجرب مرة وأخرى حتى يصل للشكل الذي يريده، يبدأ في تخمير الطين في أحواض، ثم يجلس على دولاب تشكيل الفخار، ويحولها إلى أواني وأطباق وأدوات، يسلط عليها ضوء الشمس لتجف، ويمسك بكل قطعة ليمنحها شكلا انسيابيا، ثم يحين دور الفرن ليحرق بها الفخار ويحيله إلى مادة قابلة للرسم عليها، وبعد الفرن يحول الدكتور كل قطعة إلى اللون الأبيض باستخدام أكاسيد الجليز، ليحين دور الألوان والرسومات بعين الدكتورة، ليدخل الفرن مرة أخرى يخرج بعدها في صورته النهائية، منتج مصري صُنع بالتعاون والمحبة.
اقرئي أيضًا..
نوران إبراهيم مترجم رافقت براندون في رحلته إلى مصر
الكاتب
احكي
الإثنين ٢٣ أبريل ٢٠١٨
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا