”فاطمة سري” الأم التي قهرتها ”هدى شعراوي”
الأكثر مشاهدة
إلى 2 شارع قصر النيل، حيث تقطن رائدة الحركة النسوية، ومناصرة حقوق المرأة "هدى شعراوي"، توجهت الأم حاملة ابنتها التي لم تكمل أعوامها الستة بعد، وفي قلبها يسكن الألم والقهر والحزن، ذهبت ليس بهدف طلب المساعدة، أو لتناصر حقها السيدة شعراوي، ولكن لتفقد أعز ما تملك إلى الأبد.
قبل هذه الواقعة ببضع سنوات، كانت هدى شعرواي، ابنة محمد سلطان رئيس مجلس النواب بعهد الخديوي توفيق، وأولى الناشطات النسويات في مصر، ومؤسسة الاتحاد النسائي المصري، وصاحبة الباع الطويل في قضايا تحرر المرأة، كانت قد قررت أن تقيم حفلا في قصرها بشارع قصر النيل، وتمنت أن تحيي الحفل مطربة جديدة مميزة تُدعى "فاطمة سري".
الحفل كان الشرارة التي انطلقت منها الأحداث، التي أظهرت جانبا آخر للسيدة المتحررة صاحبة المقام الرفيع، فأصرت هدى شعراوي أن تقوم فاطمة سري بإحيائه، رغم انشغالها بعرض مسرحي مع يوسف وهبي، ولكنها أخذت تتوسط حتى وافق الفنان أن يؤخر دور سري بالمسرحية حتى يتسنى لها إحياء الحفل.
اشتهرت سري في فترة عشرينيات القرن الماضي، فقد ولدت في عام 1904، ووالدها هو سيد بك المرواني، درست في المدارس الإنجليزية وأكملت دراستها بالمنزل حتى تزوجت من سيد بك البشلاوي، الذي اهتم بموهبتها الفنية والغنائية، وسمح لها بالتدرب على يد الفنان الشهير، وقتها، داوود حسني، وتعلمت على يديه أصول العزف والغناء على العود.
حققت سري نجاحات مقبولة في الفرق المسرحية، فكانت عضوة بفرقة الجزايرلي وعلي الكسار ونجيب الريحاني، كما أصبحت أول مصرية تغني أوبرا كاملة هي "شمشون ودليلة"، ورغم هذه النجاحات كانت تعاني من زواج غير سعيد، فكان الانفصال بعد إنجاب ابنتها سلمى وابنها حسين.
كان الفن، والرغبة في تقديم المسرحيات والأعمال الغنائية والتمثيلية، هم أهم ما يشغل سري بعد الطلاق، خاصة، وأن لديها أبناء تريد لهم حياة كريمة، ولكن جاء الحفل المشئوم ليفسد كل ما خططته لنفسها ومستقبل أبنائها، فكانت تقف بين المدعوين تشدو بصوتها وأدائها المميز، ليكون ذلك كفيلا حتى يقع الابن الوحيد لرائدة الحركة النسوية محمد علي شعراوي في حبها، ويبدأ في التخطيط والتفكير في الخيوط الذي عليه أن ينسجها حتى يصل إلى قلبها وإلى ما هو أبعد من ذلك أيضا.
يحاوطها ويحاصرها على الرغم من زواجه من منيرة هانم عاصم، وتمتعه بالبنات والبنين، ولكنها آسرت قلبه، وبادلته الحب، فاعتقد أنه يستطيع أن يمتلك ما هو أكثر، ولكن رفضها وتمنعها كان يزيده إصرارا ورغبة، وبسبب عدم قبولها لعلاقة غير شرعية ينال فيها ابن الأصول مبتغاه ويتركها دون احترام أو تقدير، ما كان منه إلا أن طلب الزواج، ولكن سرا.
وافقت فاطمة سري، لأن القلب لا أحكام عليه، ولأنها أحبته، ورغم إجباره لها على ترك الفن واعتزال الغناء. وبعد أيام من السعادة التي لم تكتمل، فاجأت فاطمة زوجها بحملها منه، ليبدأ صراعا طويلا استمر لسنوات، لم تحسمه سوى أروقة المحاكم وقرارات القضاة.
بعد أن عرف شعراوي الابن بحمل فاطمة سري، غضب بشدة وبدأ يتحايل ويتهرب، حتى أقنعته في أحد الليالي أن يكتب لها ما يضمن حقها وحق طفلها القادم، فكتب لها على ورقة "أقر أنا الموقع على هذا محمد علي شعراوي نجل المرحوم علي باشا شعراوي، من ذوي الأملاك، ويقيم في 2 شارع قصر النيل.. أنني تزوجت الست فاطمة كريمة المرحوم سيد بك المرواني المشهروة باسم فاطمة سري من تاريخ أول سبتمبر 1924.. وعاشرتها معاشرة الأزواج، ومازلت معاشرا لها إلى الآن، وقد حملت مني مستكنا في بطنها الآن، فإذا انفصل فهذا ابني وهذا إقرار مني بذلك.. وإن كان عقد زواجي بها لم يعتبر، إلا أنه صحيح شرعي مستوف لجميع شرائط عقود الزواج المعتبرة شرعا ... محمد علي شعراوي.. القاهرة في 5 يونيو 1925".
لم يدرك شعراوي أن ما فعله قد ينقلب عليه، إلا حين علمت والدته السيدة هدى شعراوي بالأمر، فأمرته بالابتعاد ووصفتها بـ "العالمة"، وانتشر الأمر في أوساط السياسة والفن، وكان موعد حملها قد اقترب، فسافر إلى فيينا وطلب منها اللحاق به، ورغم أنها لم تجده، قابلت الشخص الذي أنقذ قضيتها بالكامل، وهو مصطفى النحاس باشا، فكان وقتها محاميا حرا، وبعد الحديث المتبادل نصحها بالاحتفاظ بإقرار شعراوي المكتوب بخط يده، ونسخ آخر يشبه الأصلي تماما.
اجتمعت سري بزوجها شعراوي في فرنسا، ووعدها أن ينهي الخلافات ويحقق لها ما تريد، وأن يحتفل معها بالطفل القادم، ولكنه طلب منها الورقة التي كتبها من قبل يقر فيها بالحقيقة، ويبدو أن النحاس كان يعلم بما قد يدور في بال الابن بنصيحته لها، فأعطته الورقة المنسوخة مستسلمة لطلبه، وهي تعلم أن حقها لن يضيع.
أنقذت نصيحة النحاس قضية فاطمة سري، فبعد الولادة يوم 7 سبتمبر 1925، ذهبت بابنتها إلى الأب، الذي تدعو والدته إلى ضرورة تحلي المرأة بحقها في فرص متساوية في الحياة، فور علمه أن الطفل بنت واسمها "ليلى محمد علي شعراوي"، ظهر له وجها آخر يرفض "خلفة البنات"، فترك منزلها وظل يهمل اتصالاتها، وأفصح في النهاية عن رغبته الدفينة في التنكر للعلاقة والابنة، ويخبرها في النهاية "أنا لست زوجك.. وطفلتك ليست ابنتي".
لجأت سري إلى القضاء ليحسم أمر إثبات نسب الابنة التي تنكر لها والدها، وتجاهلتها الجدة، بعد محاولاتها المضنية في حل الأمر، وبعثت لهدى شعراوي برسالة مطولة قالت فيها ".. طالبت بحق هذه الطفلة المعترف بها ابنك كتابيا، قبل أن يتحول عنها وينكرها وينكرني.. وما مطالبتي بحقها وحقي كزوجة طامعة في مالكم، كلا.. ولكن خوفا على شرفكم وسمعتكم وسمعتى، ولو أننى كما تظنون لا أبالي، فربما كانت مبالاتي في المحافظة على سمعتي وشرفي أكثر من غيري في حالتى الحاضرة، فهل توافقين يا سيدتي على رأي ولدك في إنهاء المسألة أمام المحاكم؟ أنتظر منك التروي في الأمر، والرد علىَّ في ظرف أسبوع، لأننى قد مللت كثرة المتداخلين في الأمر".
كلمات الرسالة التي تنم عن شخصية فاطمة سري القوية والحاسمة غير المترددة، لم تفلح في إنهاء الأمر، على العكس عكفت هدى شعراوي على استخدام نفوذها وسلطتها للتأثير على قرارات المحكمة، وظلت تدفع بكل الطرق نحو إنكار النسب والتخلص من القصة، فاستخدمت فاطمة سري الصحافة ونشرت في إحدى الصحف "ولا يدهشني أكثر من أنها هدى شعراوي تقف مكتوفة الذراعين أمام ابنها، وهي ترى سيدة تطالب بحقها وحق ابنتها، في حين أنها تملأ الصحف المحلية والأجنبية بدفاعها عن حق المرأة".
عادت سري لتعمل في الغناء والمسرحيات، بعد أن أخبرت شعراوي في رسالتها "لو لم تتربى حفيدتكم في معيتكم لا تلوموا أحدا لو اشتغلت عالمة"، وفي النهاية كانت فاطمة سري صاحبة النفس الطويل قادرة على اقتناص حقها بحكم المحكمة بنسب ابنتها إلى محمد علي شعراوي في عام 1930.
اضطرت الأسرة الكريمة أن تقبل بحكم المحكمة، ولكنها أبرمت اتفاقا مع الأم التي ناضلت من أجل الاعتراف بابنتها، فتسلمت هدى شعراوي وابنها الطفلة من الأم داخل المنزل، بعد حكم المحكمة بشهور قليلة، لتكون تلك المرة الأخيرة التي تراها فيها، فالقرار كان باستقبال الابنة وحدها واختفاء الأم عن الأنظار تماما.
قبلت فاطمة سري، وابتعدت بحياتها بعد أن ضمنت لابنتها حياة مستقرة وهادئة، وتوارت عن الأنظار لفترات طويلة تزوجت خلالها من عبد المجيد باشا عمر، وزير المواصلات الاسبق، في فترة الثلاثينيات، وتوفيت في الثمانينات بعد أن أظهرت للجميع كيف أمكنها أن تكون قوية لتقف أمام عائلة لها سلطة ونفوذ، كما كانت أما مُضحية من أجل سعادة ابنتها، التي توفيت في 12 أكتوبر 2011.
الكاتب
هدير حسن
الأحد ٠٦ مايو ٢٠١٨
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا