روز اليوسف فنانة أخلصت للصحافة فتركت مجلة تحمل اسمها
الأكثر مشاهدة
يوم فاتها، لم يصدق مَنْ تتلمذوا على يديها، ولمع اسمهم في رحاب صحيفتها، ظلوا معتقدين أنه أحد إشاعات الصحافة الصفراء، ولكن الخبر كان حقيقي، فالسيدة الوحيدة في العالم التي أصدرت مجلة حملت اسمها "روز اليوسف"، وصارت علما في تاريخ الصحافة المصرية والعربية قد رحلت، ولكنها تركت إرثا لم تمحوه السنوات، وظل ينمو ويتسع.
تعرفي على: أسمهان مسيرة فنية قصيرة ورحيل مثير للجدل
فاطمة اليوسف
ترددت كثير من الأقاويل حول العام الذي ولدت فيه روز اليوسف، ومن بينهم نُرجح أنها ولدت في مارس 1888، كما قالت الصحفية الراحلة مديحة عزت، التي عاصرتها، ولكن تشير أقاويل أخرى إلى ولادتها في عام 1898. كانت البداية من طرابلس في لبنان، حيث ولدت الطفلة فاطمة محمد محي الدين اليوسف لأب تركي يعمل في التجارة.
بعد ولادتها بأيام، توفيت الأم، ومع ظروف عمل الوالد واضطراره للسفر لمتابعة سير تجارته، قرر أن يودعها لدى أحد الجيران هي ومربيتها، ووسط عائلة جديدة تتدين بالمسيحية، أصبح اسم فاطمة هو "روز"، وظل الأب يُرسل الأموال لهذه الأسرة حتى تتكفل برعاية ابنته، ولكن مع قرب إتمامها خمسة أعوام، بدأت الأخبار عن أبيها تنقطع.
تبدلت معاملة العائلة مع انقطاع أموال أبيها، فأصبحت روز تبيت مع مربيتها، بعد أن كانت تحتضنها الأسرة إلى جوار الأبناء، وظلت المعاملة تسوء مع الوقت، والطفلة لا تعي السر وراء هذا التغير، فلماذا يعاملها مَنْ تعتقد أنهم والديها بهذه القسوة؟ لا يرحبان بوجوزدها مع أطفالهما، ومنعاها من استكمال تعليمها، حتى علمت بقرارهما في إرسالها مع أحد الأقارب المهاجر إلى البرازيل تخففا من عبء مصاريفها.
تعرفي على: فاتن حمامة وجه القمر التي بدأت مسيرتها بيوم سعيد
كان قاسيا أن تعلم حينها روز اليوسف أن من عاشت إلى جوارهم لما يقرب 10 سنوات ليسوا أبويها، فأخبرتها مربيتها الحقيقة وأرتها شهادة ميلادها، وأقنعت بالسفر مع القريب المهاجر، وبالفعل، تم اتخاذ إجراءات السفر، وعلى متن باخرة رحلت من طرابلس لترسى في البرازيل، بدأت روز رحلة جديدة غامضة لا تعلم مستقرها.
رست الباخرة، في أثناء طريقها، على ميناء الإسكندرية، لتجدها روز فرصة مناسبة لتكون هي صاحبة القرار في حياتها الجديدة، فهربت من القريب، وتسللت خارجة إلى أحياء الإسكندرية المبهرة، وظلت هائمة في شوارعها، حتى أقنعها حارس أحد القصور، بعد أن استمع إلى قصتها، بأن تسافر إلى القاهرة، حيث تجد فرصا أكبر للعمل.
في القاهرة، وبشارع محمد علي، التقت الفتاة الصغيرة بإسكندر فرح، وهو صاحب فرقة مسرحية ذائعة الصيت حينها، فضمها إلى أسرته وقام برعايتها وعاملها معاملة معاملة جيدة، ثم أخذها لتعمل في المسرح خلف الكواليس، ومع الوقت، بدأت أجواء المسرح تبهرها، وسعت لتكون إحدى الممثلات مع الفرق المسرحية.
أظهرت روز اليوسف اهتمامها بالتمثيل والمسرح، فكانت ترتدي ملابس العارضات والممثلات، مما دفع إسكندر فرح والممثل عزيز عيد إلى تعليمها قراءة النص المسرحي، وعملا على تضمينها في الفرقة المسرحية، وإسناد بعض الأدوار إليها، والتي يُعد من أبرزها قيامها بدور جدة رفضت كل الممثلات الأخريات القيام به، وكانت تمتلك روز موهبة تعبيرية مكنتها من الاستحواذ على محبة وإعجاب الجماهير.
اقرئي أيضا: تحية كاريوكا فنانة وراقصة وظاهرة وطنية متفردة
مجلة روز اليوسف
استمرت أدوار روز اليوسف مع الفرق المسرحية، وبسبب خلاف بينها والفنان يوسف وهبي، قررت أن تترك التمثيل وتعتزله تماما، وتتناوله بطريقة أخرى مختلفة، فلاحظت عدم وجود صحيفة أو مجلة تتحدث عن الفن والفنانين، وخلو الساحة مما ينهض بالحركة الفنية ويساهم في نشر الثقافة بها.
12 جنيها كانوا تكلفة إصدار العدد الأول من المجلة، في حين لم تكن تملك روز سوى خمسة جنيهات، لكن هذا لم يُثنها عن الهدف الذي وضعته لنفسها، فعزمت على أن تستكتب كبار الكُتاب وقتها، وقررت أن تستغل اسمها، الذي كان معروفا في الأوساط الفنية والثقافية وبين عموم الناس، وحولت شقتها إلى مكتب للمجلة.
صدر العدد الأول من "روز اليوسف" في 26 أكتوبر 1925، لتكون المجلة الوحيدة التي حملت اسم سيدة ومؤسستها في العالم، ورغم أن البداية كانت للفن، ولكن اشتعال الحياة السياسية في مصر، جذب اهتمام روز اليوسف، وقررت أن تتوسع مجلتها نحو الأحداث التي تضج بها الحياة اليومية، وأصبحت "روز اليوسف" جريدة سياسية انتقادية مسرحية مصورة.
تعرفي على: صفاء صالح صحفية تهوى البحث عن المتاعب وتحدت داعش
جذبت روز اليوسف كُتاب صنعوا مجدهم داخل اروقة المجلة، فكانت تعج بصحفيين أضحت لهم أسماؤهم اللامعة، فاستكتبت صلاح حافظ ويوسف إدريس وفؤاد حداد وعباس العقاد ومحمد التابعي، وقررت أن تنافس الإصدارات الأخرى برسامي الكاريكاتير، فبرع فيها صلاح جاهين وبهجت، وكانت تنتقد التيارات السياسية على اختلافها، فكرّست لصحافة مميزة، تحترم القاريء وتسعى لحرية الرأي.
أصدرت روز اليوسف مجلة أخرى وأسمتها "صباح الخير"، لتكون مسعى القلوب الشابة والعقول المتحررة، واستطاعت أن تنافس بهذه الإصدارات كبرى الصحف حينها، وتستحوذ على اهتمام القاريء، وبسبب انحيازها لما تراه على حق تسببت لنفسها في كثير من المتاعب، فرغم مساندتها لـ "ثورة يوليو"، عانت من اضطهاد نظام ما بعد الثورة.
يحكي كثيرون مِمَنْ تعلموا في دار روز اليوسف عن تقديرها للقاريء، وتعاملها معهم كالعائلة، فزرعت داخلهم حب للصحافة والكتابة، وأخرجت أجيال من المفكرين والكُتاب، ما زالت تفخر بهم مصر.
اقرئي أيضا: برلنتي عبد الحميد مسيرة فنانة بين السياسة والتمثيل
إحسان عبد القدوس
تزوجت روز اليوسف ثلاث مرات، مرة من الفنان محمد عبد القدوس، وأنجبت منه ابنها إحسان عبد القدوس في يناير 1919، ومرة أخرى من الفنان والمسرحي زكي طليمات، وأنجبت منه ابنتها آمال طليمات في اكتوبر 1924، وآخر زيجاتها كانت من حفيد قاسم أمين، محرر المرأة، الذي كان يحمل نفس اسم جده.
كانت تجمعها بابنها علاقة حب وود لم تتكرر، فتقول له في أحد مراسلاتهما:
"ولدي إحسان
يا أعز من روحي، وصلني خطابك، كل ما ارجوه لك يا ولدي، صحة ونشاط وصبر وسعادة وعمر طويل إن شاء الله، فحافظ على صحتك وتعود على الصبر تكون سعيدا وتنال ما ترجوه وما أريده لك من تقدم.
أقبلك يا ولدي، وأرجو لك رحلة موفقة وعودا حميدا لك
حبي وقبلاتي
أمك فاطمة اليوسف"
وكان إحسان عبد القدوس ينسب لها الفضل في اكتشافها لموهبته ككاتب، وفتحت له مجال التعبير عنها، فكتب لها مقدمة كتابها "ذكريات.. فاطمة اليوسف"، الذي صدر في ديسمبر 1953، وقال في هذه المقدمة:
"أمي صنعت مني هذا الرجل!
هي التي التقطت دروس الفن وجعلت من نفسها «سارة برنارد الشرق» كما أطلق عليها نقاد ذلك الجيل.
وهي.. السيدة التي لا تحمل شهادة مدرسية ولا مؤهلا علميا.. هي التي أخرجت جيلا كاملا من الكتاب السياسيين ومن الصحفيين.. هي التي أرشدت أقلامهم، وهي التي وجهتهم، وهي التي بثت الروح فيهم، وهي التي انتقتهم ورشحتهم لمستقبلهم.. ولا تزال إلى اليوم تُخَرِّج منهم فوجا بعد فوج.
جريئة إلى حد أن تقول لكريم ثابت عندما جاءها يبلغها تهنئة فاروق بمرور عام من أعوام مجلتها: «قل لمولاك أني أرفض تهنئته» وجريئة إلى حد أن تقول لإبراهيم عبد الهادي وهو في سطوة نفوذه: «يا إبراهيم استقل».. وجريئة إلى حد أن تتحدى وحدها مظاهرة ضخمة أطلقها الوفد عليها ليحطم دارها."
اقرئي أيضا: صفية زغلول زوجة مناضل وأم للمصريين ومناصرة للمرأة
في أحد الأمسيات، طلبت من صديقتها الكاتبة مديحة عزت أن تصطحبها إلى السينما، ومع بدء الفيلم، انتفضت روز اليوسف فجأة من مكانها، وخرجت مسرعة ورحلت، فلحقت بها صديقتها غير مستوعبة ما يحدث، ودخلت إلى منزلها، لتجدها قد خلعت ملابسها وارتدت ملابس النوم، واستلقت على فراشها، لتغط في سُبات عميق لم تفق منه.
خرجت جنازة فاطمة اليوسف من الدار التي أسستها "روز اليوسف"، في 10 أبريل 1958، بعد أن حضر مراسمها رجال الفن والسياسة الخصوم قبل الأصدقاء، إلى جانب عموم الشعب من القراء والمحبين، لترحل بعد أن سطرت اسمها في كتب التاريخ صحفية ومناضلة وفنانة.
اقرئي أيضا:
تعرفوا على نادية مراد العراقية الفائزة بجائزة نوبل
الكاتب
هدير حسن
الأحد ١٧ فبراير ٢٠١٩
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا