سناء جميل صاحبة الأداء الاستثنائي والحياة الصعبة
الأكثر مشاهدة
مدارس التمثيل مختلفة ومتعددة، وكل ممثل يُفضل مدرسة عن الأخرى من حيث الأداء. ولكننا لا نختلف على أن فن التمثيل سحر من نوع خاص، عالم يأخذك للكثير من الشخصيات، ولهذا يُطلق على المُمثلين "المشخصاتية"، لأنهم يُجيدون فن التشخيص وتقمص أشخاص أخرى. ولأنني مؤمنة بأهمية الإقناع في عالم التمثيل، سأحكي لكم اليوم من خلال قسم أنتي الحكاية عن أحد أهم الممثلات في السينما والدراما المصرية والعربية. سناء جميل...
هى فضة المعداوي في الراية البيضا، ولطيفة هانم شوكت في سواق الهانم، وسلوى في ساكن قصادي ونفيسة في بداية ونهاية وحفيظة في الزوجة الثانية ومجموعة كبيرة من الشخصيات النسائية اختلطت فيها مشاعر إنسانية متنوعة ورسمت ملامحها بعناية وجسدتها بعفوية شديدة. سناء جميل كانت فنانة وإنسانة من طراز مختلف، وهى بطلة حكايتنا اليوم.
سناء جميل السيرة الذاتية
هى ثُريا يوسف عطا الله، فهذا هو اسمها الحقيقي، وُلدت في مركز ملّوي التابع لمحافظة المنيا في 27 إبريل عام 1930. هى من أسرة قبطية مصرية صعيدية، والدها كان مُحاميا ووالدتها كانت خريجة كلية البنات الأمريكية بمحافظة أسيوط. وكان لها أخت توأم، ولكن بعد انتقال العائلة للقاهرة، قامت أسرتها بإلحاقها بالمدرسة الداخلية "المير دي دييه"، وعندما بلغت عُمر 9 سنوات، قامت أسرتها بدفع تكاليف دراستها في المدرسة حتى تخرجها، وبعد ذلك اختفت تماما ولم يعرف أحد عنهم شيئا ولا عن سبب إختفائهم.
بعد التخرج من المدرسة الداخلية، عرض أحد الأشخاص على سناء الإلتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، والذي كان عميده في هذا الوقت الفنان وأحد رواد المسرح "زكي طليمات". فسناء كانت تعشق التمثيل منذ الصغر وتشترك في حفلات المدرسة. بالفعل وافقت سناء على التقديم في اختبارات المعهد، ولكن بسبب دراستها الفرنسية في مدرسة المير دي دييه، فلم تكن تعرف النطق الصحيح باللغة العربية. واختبارات المعهد تتطلب منها أن تُقدم مشهدا من مسرحية شعرية باللغة العربية. اختارت سناء مشهد من مسرحية "كليوباترا" لأحمد شوقي، وقامت بكتابة أبيات الشعر التي ستُلقيها بالحروف الفرنسية لتستطيع نُطقها بشكل صحيح. وبالفعل اجتازت سناء الاختبار واختارها زكي طُليمات لتلتحق بالمعهد.
ولكن لكي تلتحق سناء بالمعهد، كان لابد من موافقة ولي الأمر وإمضاءه، وكان من المستحيل أن يوافق أخيها الذي كانت تقطن معه في منطقة غمرة بمحافظة القاهرة على هذا الأمر. فقد كان يرى أن التمثيل "كلام فارغ" ولم يقبل أن أخته الفتاة تعمل بهذا المجال. لجأت سناء لتزوير إمضاء أخيها على أوراق قبولها بالمعهد، وبالفعل التحقت به وبدأت تدريب ومحاضرات على التمثيل وتمرين على النطق باللغة العربية الصحيحة.
في هذا الوقت قام زكي طُليمات بتأسيس فرقة "المسرح العربي الحديث" واختار سناء ومجموعة من زُملائها للإشتراك بهذه الفرقة. وعندما بدأت الصحافة تكتب عن تلك المواهب الشابة التي تعمل في مسرح زكي طُليمات، عرف أخوها ما كانت تُخفيه عنه. وكان رد فعله عنيفا للغاية لدرجة أنه صفعها على وجهها عندما علم أنها تعمل بالتمثيل وطردها من المنزل في الليل. وكان ذلك وقت أحداث حريق القاهرة عام 1952. وتروي سناء جميل أنها خرجت من البيت في الليل ولم يكن معها نقود، واضطرت للمشي من غمرة للتحرير، حيث ذهبت لمنزل أستاذها في المعهد وقتها والفنان والممثل سعيد أبو بكر، ولجأت له هو وزوجته، وقد رحبا بها كثيرا. وظلت مُقيمة عندهم لمدة 3 شهور.
بعدها بدأت سناء رحلتها في المعهد والمسرح، واستطاع زكي طُليمات أن يوفر لها سكنا في بيت الطالبات أو المغتربات وعملا في المسرح بجانب ما تأخذه من المعهد. فقد كانت تحصل على 6 جنيهات من المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث كان المعهد يمنح هذا المبلغ لكل طالبة كل شهر كتشجيع على الدراسة، بالإضافة لـ 6 جنيهات من فرقة المسرح العربي الحديث. كل مواردها كانت 12 جنيها في الشهر.
بعد خروجها من بيت الطالبات اضطرت سناء أن تعمل في الخياطة والتطريز، وهى من الفنون التي تعلمتها في المدرسة. عملت في أحد المحلات الذي كان مُتخصص في خياطة وتطريز جهاز العرائس. واستطاعت أن تحصل على شقة متواضعة في منطقة تُسمى أرض شريف بمساعدة الفنانة نعيمة وصفي التي اقترحت عليها أن تستأجر الشقة التي تقع في الدور الأول من نفس المبنى الذي كانت تسكن به. وبدأت سناء في فرش هذا البيت شيئا فشيئا من العمل في المسرح وفي الخياطة. ولكنها تتذكر هذه الأيام بمنتهى الامتنان والشعور بالفخر لأنها تعتقد أن تلك الأيام الصعبة هى من صنعت شخصيتها القوية. بالرغم من أنها تتذكر بأسى أنها كانت تضطر أن تنام على ملابسها على الأرض، لأنها لم تمتلك نقود لشراء مرتبة أو سرير كامل، وهذا الأمر تسبب في إصابتها بإنزلاق غضروفي.
أما عن الاسم الفني لسناء جميل، فقد اختاره لها أستاذها زكي طُليمات في مسرحية الحجاج بن يوسف وقد أعجبها الاسم ووافقت عليه فورا، خاصةً أن شُهرتها باسمها الحقيقي كان سيُسبب لها متاعب كثيرة مع عائلتها في الصعيد.
اقرئي أيضا: عارفة عبدالرسول الحكاءة بنت البقال بأداء سلس وبسيط
سناء جميل وزوجها
على قدر ما قد تُجافينا الحياة أحيانا، على قدر ما تُكافئنا أحيانا أخرى. وقد كافئت الحياة سناء جميل بزوجها الكاتب الصحفي لويس جريس. فنشأت بينهما قصة حب كان عُمرها من وقت لقائهما وحتى ممات الاثنين. ومازالنا نتذكرها حتى الآن ونتداولها. بدأت تحديدا عام 1960، عندما قابلت سناء جميل لويس جريس في حفل توديع صحفية سودانية كانت تعمل بمجلة روز اليوسف التي كان يعمل بها لويس جريس أيضا. وظلت سناء طوال الحفل تخطأ في اسمه وتقول له "يوسف"، وبعد انتهاء الحفل، يروي لويس جريس أن سناء جميل حرصت على توديعه، ثُم سألته إذا كان يملك حاليا "3 تعريفة"، فأخبرها أن معه "قرشين ساغ" فقالت له "دول عشان بكرة تضربلي تليفون" ومنذ ذلك الحين وقع الاثنان في غرام بعضهما البعض.
ولكن من الطريف أن لويس جريس ظل مترددا في الاعتراف بحبه لسناء جميل، لأنه كان يظن أنها مسلمة بسبب طريقة كلامها حيث كانت تُكرر دائما "إن شاء الله" "والنبي" "والله العظيم"، ولكن لم يستطع التخلص من المشاعر التي يحملها لها. وفي ليلة دعى لويس سناء على العشاء، واعترف لها بحبه لها وعرض عليها الزواج. ومر على هذه الليلة حوالي شهر، حتى وجد لويس سناء تُهاتفه وتقول له أن الدبلتين بجنيهات قليلة وأنهما يُمكنها الذهاب للحسين فورا وشرائهما، ولكنه تفاجأ من رد فعلها السريع وطلب منها بعض الوقت ليُشهر إسلامه ويستطيع أن يتزوجها، حتى فاجئته سناء بأنها مسيحية، وأنهما يُمكنها الزواج فورا.
وبالفعل اتفقا على ذلك واشترا الاثنين دبلتين قيمتها 10 جنيهات وقتها. ولكن قس الكنيسة في ذلك الوقت رفض أن يعقد العقد بينهما بسبب عدم وجود شهود أو مدعوين، فقام لويس جريس باستئجار سيارة كبيرة ونقل حوالي 35 موظف من مجلة روزاليوسف ليحضرا عقد زواجه على سناء جميل.
وظلت سناء جميل هى وحيدته ورفيقة درب لويس جريس حتى وفاتها، فقد اتفقا على عدم الإنجاب، لأن سناء جميل كان لها وجهة نظر خاصةً في فكرة الإنجاب، فهى لم ترغب في إنجاب أطفال يعيشون في هذا العالم القاسي، خاصةً بعد ما عانته من مأساة مع عائلتها وبعد الظروف الصعبة التي عاشتها في طفولتها وشبابها. وقد وافقها لويس جريس هذا الرأي. ولكن في الفيلم التسجيلي حكاية سناء، الذي يروي قصة حياتها، يقول لويس جريس أن سناء جميل عندما وصلت لسن الستين اعترفت له بأن قرارها بعدم الإنجاب كان خطأ.
وبعد مرور حوالي 15 عام على وفاتها نعى لويس جريس زوجته بكلمات مُفعمة بالرومانسية ومليئة بالحب والدفء والإخلاص، فقال لها " 15 سنة ولازلتِ هنا، ولازال عطرك يفيض من حولي ويملأ الأمكنة... 15 سنة على رحيلك يا سناء... 15 سنة ولازلت أذكر حنانك ودفء كفك حينما كان يربت على كتفي... 15 سنة ومازلت أحكي لمن حولي عن عشقي لك... وعن عدم وفائك بالوعد". وظل لويس جريس مُخلصا لزوجته ووفيّا لها حتى وفاته عن عُمر يُناهز 90 عاما، لم يتزوج غيرها وظل باقيا على ذكراها.
اقرئي أيضا: مشوار سوسن بدر نفرتيتي العصر الحديث
أعمال سناء جميل
"غول تمثيل" هكذا كانت تُلقب سناء جميل، فهذه الفنانة كانت من طراز خاص جدا، بشهادة كل من عمل معها، وبشهادة جمهورها. البداية الفنية لسناء جميل كانت كما ذكرنا من خلال فرقة المسرح العربي الحديث والمسرح عموما، ولكن انطلاقتها الحقيقية كانت من خلال دور "نفيسة" في فيلم بداية ونهاية. هذا الدور اعتذرت عنه سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، لأنها نوعا ما خافت من جرأة هذا الدور وقتها. ولكن عندما قامت بأدائه سناء جميل تركت بصمتها الخاص، وأصبح هذا الدور مرتبطا باسمها وعلامة فارقة في تاريخها الفني. فقد أدت دور الأخت الوحيدة لثلاثة أشقاء، تبحث عن الحب والأمان من الفقر، ولكنها تقع في طريق آخر يقودها للعمل كفتاة ليل، وتضطر أن تقبل بذلك لتُساعد إخوتها ولكنها تُقابل نهاية مأسوية في آخر الفيلم. الفيلم كان من إخراج صلاح أبو سيف وهو في الأصل عن رواية لنجيب محفوظ.
أما المحطة الأشهر في حياة سناء جميل الفنية فكان دور "حفيظة" في فيلم الزوجة الثانية، هذا الفيلم الذي يُعتبر واحدا من أفضل 100 فيلم في السينما المصرية. تحفة فنية بكل المقاييس بدايةً من القصة المأخوذة عن الأديب أحمد رشدي صالح، مرورا بالحوار والكلمات والإخراج إنتهاءا بالأداء العبقري ليس فقد لنجمة حكايتنا سناء جميل، ولكن لسندريلا الشاشة سُعاد حسني والعملاق شكري سرحان والعبقري صلاح منصور. هذا الفيلم جمع الثلاثي سناء جميل وصلاح منصور مرة ثانية بعد فيلم بداية ونهاية، ولكنهما ظهرا بشكل مختلف تماما بالرغم من أن قائد هذه الأوركيسترا الفنية هو أيضا صلاح أبو سيف مخرج الفيلم السابق. ولكنه استطاع في هذا الفيلم أن يُقدم سناء جميل وصلاح منصور بطريقة أقرب للواقعية وأن يُخرج منهما طاقات فنية لم يُقدموها من قبل. لنُشاهد هذه الملحمة السينمائية كل مرة كأنها أول مرة.
وعن علاقتها بأفلام أحمد زكي، فقد تمنت سناء أن تعمله معه وتُمثل أمامه، وهو الوحيد الذي تحدثت معه وقالت له أنها تُريد العمل معه. وفور أن علم أحمد زكي بذلك، أرسل لها سيناريو فيلم سواق الهانم، وهو واحدا من أهم أفلام السينما المصرية. دور لطيفة هانم شوكت، جسدته سناء جميل بعفوية شديدة، مشاعر مختلطة بين السيدة الأرستقراطية التي تعيش في ظلال الماضي، والزوجة الغيورة، والأم التي تخاف على أبنائها. ولم يخلو الدور من حس الفكاهة الذي كانت تتمتع به سناء جميل ليس فقط أمام الكاميرا ولكن في الحياة العادية أيضا.
أما الفيلم الثاني فكان "اضحك الصورة تطلع حلوة" والذي قامت فيه بدور والدة أحمد زكي. "الست روحية" وهى امرأة عاشت أوقات صعبة مثل الاحتلال والتهجير حتى استقرت في محافظة السويس. تقف دائما داعمة لابنها وابنته التي تركتها أمها وتوفت. جسدت سناء جميل واحدا من أهم أدوارها في هذا الفيلم، قدمت لنا الضحكة، والدراما والمشاعر الإنسانية الدافئة في خلطة يعرف سرها فقط سناء جميل.
اقرئي أيضا: حياة الفهد سيدة الدراما والكوميديا الخليجية
وعن أدوارها التليفزيونية، فبالتأكيد نتذكر جميعا النداء الأشهر في الدراما المصرية "حمو... التمساحة يلا!" وهو نداء الحاجة فضة المعداوي، المرأة الاسكندرانية قوية الشخصية التي لا يقف أحد في وجهها. ملحمة درامية ألفها أنور عكاشة وأخرجها محمد فاضل، وجسدتها ببراعة سناء جميل. أضافت سناء لهذه الشخصية الكثير من روحها والتفاصيل التي جعلت الشخصية تبدو بهذه التلقائية والواقعية. وهذا بشهادة كاتب العمل نفسه أسامة أنور عكاشة الذي قال أن أداء سناء للشخصية جعلها تتفوق حتى على الشخصية التي كتبها ورسمها على الورق. حتى أن زوجها لويس جريس يحكي أنها طلبت منه اصطحابها لحلقة السمك في الأسكندرية لتُشاهد وتُراقب السيدات اللاتي يعملن هناك، كيف يتصرفن، وأشكال ملابسهن وكل تلك التفاصيل.
وتعود سناء لتبهرنا من جديد بواحدا من الأعمال الكوميدية الاجتماعية التي مازلنا نتذكرها حتى الآن وهو مسلسل ساكن قصادي. صحيح أن الشخصية كانت بسيطة وكوميدية ولكن أحيانا الصعوبة تكون في البساطة والتلقائية. ولكن سناء كالعادة تألقت في دور سلوى هانم المرأة التي تُشبه الكثير من السيدات المصريات، ولكنها تحمل بداخلها أيضا ارستقراطية الماضي.
وقبل اقتراب انتهاء حديثنا عن أعمال سناء جميل الفنية لا نستطيع أن ننسى دورها في واحدا من أهم المسلسلات التليفزيونية وهو خالتي صفية والدير. وهو عن رواية الكاتب بهاء طاهر بنفس الاسم. وقد تحول لمسلسل إذاعي ثُم مسلسل تليفزيوني. وبالرغم من أن سناء جميل لم تكن البطلة الأساسية في العمل، فالقصة تدور حول صفية وحربي وقصة الحب بينهما، إلا أنها تركت بصمتها بأدائها الذي يُدرس لدورها في المسلسل.
لسنوات ظلت تُمتعنا سناء جميل بالعديد والعديد من الأعمال سواء في الإذاعة أو المسرح والسينما والتليفزيون. حتى توفت في شهر ديسمر عام 2002 بعد معاناة مع مرض السرطان عن عُمر يُنهاز 72 عاما. عاشت سناء جميل خلال تلك السنوات ليس فقط كفنانة مشهورة وممثلة من العيار الثقيل ولكن كامرأة وربة بيت تُحب أن تفعل كل شىء بنفسها. فيقول عنها رفيق دربها لويس جريس أنها كانت دائما تُحب أن تجد ما تفعله وتكره الفراغ، فإذا صادف ولم تكن مشغولة بالتصوير، تبدأ في ترتيب البيت، والتفصيل وأداء المهام المنزلية التي كانت تستمتع بها.
أما على المستوى الفني، فسناء جميل صاحبة رصيد يُقدر بـ 4 أفلام ضمن أهم 100 فيلم في السينما المصرية، منهم الزوجة الثانية وبداية ونهاية. فهى ممثلة كانت تُدقق في النص، وتنتبه لكل جملة تقولها. ممثلة كانت تُصدق الدور الذي تلعبه ليُصدقها الجمهور على الشاشة أو المسرح، لذلك وصلت لقلوب الملايين، فالحب دائما وأبدا للحاضرة الغائبة سناء جميل.
اقرئي أيضا: مديحة يسري سمراء النيل التي ألهم جمالها الشعراء والكتاب
اقرئي أيضا: داليدا أسطورة غنائية بدأت من شبرا نحو العالمية
الكاتب
دينا خليل
الخميس ٠٩ يناير ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا