عائشة عبد الرحمن.. ”بنت الشاطئ”أول من حاضرت في الأزهر
الأكثر مشاهدة
هي ابنة الريف والهامش التي استطاعت بدأبها وتفوقها أن تسطر اسمها بحروف من نور بين أسماء الرائدات العربيات، فقد حققت الدكتورة عائشة عبد الرحمن معادلة عصرها الصعبة، حينما كان تعليم الفتيات أمرًا لا يجد قبولًا في أوساط المجتمع، فكيف يكون الأمر بالنسبة لابنة شيخ أزهري في بدايات القرن العشرين؟، لكنها بمساعدة والدتها تعلمت وأثبتت نفسها، وفي كل مرحلة تعليمية كانت تواجه الاعتراضات والمعوقات فلم تستسلم حتى أصبح اسم بنت الشاطئ ملئ السمع والبصر من بلاط صاحبة الجلالة "الصحافة" إلى قاعات المحاضرات وحتى أروقة الأزهر الشريف التي كانت أول امرأة تحاضر فيه منذ تأسيسه.. هذه قصة وسيرة حياة واحدة من أهم الرائدات المصريات والعربيات، صحافية وأديبة ومؤرخة ومتحدثة لبقة أوتيت جوامع الكلم هي الأستاذة الدكتورة عائشة عبد الرحمن.
السيرة الذاتية لعائشة عبد الرحمن
ولدت في السادس من نوفمبر عام 1913، وكبرت في رحاب شاطئ دمياط الذي حملته معاها طوال رحلتها ليذكرها بحماس الطفولة وحلم الصبا ويلهمها هدوء ورجاحة العقل وكذلك عصف الأفكار والشغف بها ونقاوة البال وصفاء الروح. ودائمًا ما كانت الدكتورة عائشة تقول أنها "عطاء أجيال من العلماء ومن النساء أيضًا" وإذا كانت قد وصلت إلى آخر الطريق، فقد فعلت بسبب كل من تعثرن على الجسر الرابط "بين عصر الحريم وعصر التفتح" ولم يكملن من قبلها، وأنها تدين بالفضل للأمهات اللاتي "بذلن وأعطين وجاهدن وجنينا نحن الثمر".
تعرفي على: الأميرة فاطمة إسماعيل صاحبة الفضل المؤمنة بالتعليم
تحدثت بنت الشاطئ عن عائلتها وأصولها كثيرًا، فوالدها من ريف المنوفية وأبيه من الصعيد وجده الأكبر من الحجاز، أما والدتها فهي من دمياط وهناك عاشت طفولتها وصباها.
والدها كان عالمًا أزهريًا وكذلك جدها لأمها، وهذا وإن ساهم في تربيتها فكريًا ونفسيًا ومدها بالثقافة والعلوم في عصر كان المتعلمون فيه قلة نادرة، فإنه أيضًا مثل العقبة الأولى في حياتها، فقد كانت معرفة أهل بيت العلماء شيء مخالف للتقاليد و"مُبتذل"، فاختارت اسم الشاطئ ليكون رمزًا لها حتى تحفظ مكانة والدها وتعبر عن نفسها حين بدأت تحتك بالحياة العامة.
"ربطتني بهذا الشاطئ عواطف كثيرة وذكريات، فعليه مثلًا غرقت جدتي لأمي وظلت الأسرة تحمل المأساة وتحظر علي الخروج إلى الشاطئ، لكنني كنت مولعة به، فهو ملعب صباي ومدرج طفولتي" تقول الدكتورة في حديث لها مع الشاعر فاروق شوشة، وتتذكر حنين والدتها لدمياط في كل مرة كانوا يذهبون لفضاء العطلات في قرية والدها بالمنوفية، وهو ما أثر فيها أيضًا وجعلها تحن دائمًا إلى دمياط.
اقرئي أيضا: بثينة العيسى كاتبة كويتية تتمرد على الواقع
تصف طباع والديها بأن الأب كان صاحب مزاج صوفي رقيق له مريديه وتلامذته وأمها مرهفة الحس هي ابنة الحضر والعائلة، فكبرت عائشة وهي تستقي من هذا الفكر الاستشراقي الصوفي وفي نفس الوقت لا تغفل صرامة المنهج ودقته. وقد تلقت تعليمها الأول في كُتّاب القرية فحفظت القرآن الكريم، وكان بها رغبة للالتحاق بالمدرسة فعارض والدها الأمر واستقر الرأي بعد دفع من جدها لأمها على أن يسجل اسمها في المدرسة الأولية وتدرس في المنزل على يد والدها وبمساعدة زملائه بالمعهد الديني، وهذا جعلها فصيحة اللسان منذ الطفولة ولا تعرف التعبير بغير العربية الفصحى، ثم رسخ قدميها في علوم اللغة العربية والقرآن فيما بعد وجعلها تتفوق على أقرانها بجمعها للعلوم الدينية والعصرية معًا.
ورغم رقة قلب والدها وتسامحه، فقد كان ملتزمًا بآداب العصر وتقاليده ولم يسمح لها بالخروج أو أن يعرف الناس اسمها، وحين حصلت على الشهادة الابتدائية بتفوق ونشر اسمها بين العشرة الأوائل كان موضع خلاف كبير في البيت، "كنت أخاف من الله لأني أعصي والدي وأقرأ سرًا في العلوم العصرية وليس فقط علوم الدين".
من المنزل أكملت تعليمها وحصلت على شهادة كفاءة للمعلمات عام 1929 وحلت الأولى في الترتيب على القطر المصري، ومن شدة نبوغها نصحها ممتحنيها أن تحصل على شهادة الثانوية العامة لتنضم إلى الجامعة لأن عقلًا مثلها لا يجب أن يكتفي بشهادة المعلمات. فبدأت الدراسة من جديد وحصلت على شهادة الابتدائية والكفاءة ثم "البكالوريا" أي الثانوية العامة من المنزل أيضًا وكل ذلك في ثلاث سنوات فقط، لكن دخول الجامعة لم يكن أمرًا سهلًا، فالأب ما يزال يعارض الانتظام في الدراسة، ولا يوجد نظام انتساب في الجامعة، "وقفت طويلًا أمام الباب الموصد لمدة عام كامل"، لكنها قررت الالتحاق وتسجيل اسمها مع الاعتذار للأساتذة عن الحضور إلا في دروس قليلة، ووعدهم بالحصول على أعلى الدرجات في المقابل، وبهذا أصبحت عائشة عبد الرحمن طالبة في جامعة القاهرة.
في الجامعة كانت طالبة للدكتور أمين الخولي أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة والذي احتفظ بزيه الأزهري في أروقتها ولم "يتفرنج" ويرتدي البدلة، وكانت تحس تجاهه بمشاعر انجذاب وهيبة في كل مرة تراه محاضرًا، "اكتشفت إنه كان في أوروبا وعاش في المفوضية في روما 6 سنين، وأنا ظننت أنه من بيئتي وزي حالاتي"، وقتها كانت عائشة تمر بمرحلة تخبط، فتكره الجامعة وتجد أنها لا تناسب مستواها خصوصًا في دراسات اللغة، فاصطدمت بصرح الدكتور أمين الخولي الذي زادها علمًا ورتب أفكارها وكان يقسو عليها في الدرجات والمناقشة حتى لا تنخدع في نفسها، ففهمت أنها ما تزال تتعلم و"عقدت صلحًا مع الجامعة" تقول: "أقبلت على الجامعة وانتفعت بكل أستاذ درسلي مثل الأستاذ مصطفى عبد الرازق والدكتور طه حسين والدكتور عبد الرحيم مصطفى وغيرهم".
اقرئي أيضًا: الملكة نازلي صاحبة الجلالة التي جردت من لقبها
وتخرجت في كلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1939، ثم نالت الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام 1941. تزوجت عرابها الدكتور أمين الخولي عام 1944 الذي شجعها على إكمال دراستها وكان دائمًا محفزها وأستاذها، حتى حصلت على الدكتوراه بإشراف ومناقشة من الدكتور طه حسين عام 1950 وكان موضوعها نص رسالة الغفران لأبي العلاء المعري.
بدأت عائشة النشر منذ كانت في سنة الثامنة عشرة من عمرها، وتحديدًا في مجلة النهضة النسائية، وفي عامها الجامعي الأول وهي ابنة كانت تكتب مقالًا في الصفحة الأولى بجريدة الأهرام، وهو ما كان حلمًا بعيد المنال لكبار الأساتذة وقتها، وكانت توقعه باسمها المستعار "بنت الشاطئ" لتكون ثاني امرأة تكتب بالجريدة العريقة بعد مي زيادة. وألفت في السنة الثانية كتابًا بعنوان الريف المصري.
بعد تخرجها وإتمام دراستها العليا، وازنت بين كونها أم لـ3 أبناء، وبين عملها كمفكرة وكاتبة وأستاذة وباحثة، وقد انطلقت عائشة عبد الرحمن لتدَرس وتُدرس بجامعات مختلفة، فشغلت منصب أستاذ للتفسير والدراسات العليا في كلية الشريعة بجامعة القرويين في المغرب، وأستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة عين شمس بمصر، وأستاذ زائر لجامعات أم درمان والخرطوم، والجزائر، وبيروت، وجامعة الإمارات وكلية التربية للبنات في الرياض، وكانت أول امرأة تحاضر وتدرس في الأزهر الشريف.
اقرئي أيضًا: روز اليوسف فنانة أخلصت للصحافة
تركت بنت الشاطئ أكثر من أربعين كتابًا في الدراسات الفقهية والإسلامية والأدبية والتاريخية، منها التفسير البياني للقرآن الكريم، والقرآن وقضايا الإنسان، وتراجم سيدات بيت النبوة، وكذا تحقيق الكثير من النصوص والوثائق والمخطوطات، وكذلك دراسات لغوية ونقدية، وقدمت سيرتها الذاتية بعنوان "على الجسر"، وحصلت على تكريمات عديدة وجوائز تقديرية، وكانت عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، وساهمت في تشكيل الوجدان العربي في علوم اللغة العربية والقرآن لسنوات وما زالت تفعل، وهي التي تقول أنه لا يمكن دراسة علوم الإسلام بغير اللغة العربية، ولا أن تدرس اللغة العربية بغير علوم الإسلام.
ومن أهم كتب بنت الشاطئ:
- بنات النبي
- سكينة بنت الحسين
- مع المصطفى، مقال في الإنسان
- نساء النبي
- أم الرسول محمد..آمنة بنت وهب
- أعداء البشر
- أرض المعجزات..رحلة في جزيرة العرب
- بطلة كربلاء
توفيت عائشة عبد الرحمن في 1 ديسمبر 1998 عن عمر ناهز 85 عامًا. وهي القائلة: "في وجداني وفي عقلي، أنني قد سافرت إلى الغرب، وتعلمت في جامعة، وتخرجت بأعلى الدرجات العلمية، ووصلت لما وصلت إليه، وأعتقد أن زاد الطريق كان القرآن وأن معلمي ودليلي الأول ورائدي وشيخي هو والدي الشيخ محمد علي عبد الرحمن الحسيني."
اقرئي أيضا:
ديانا أميرة ويلز آسرة القلوب التي مزقت الأحزان روحها
الكاتب
ندى بديوي
الثلاثاء ٠٥ مايو ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا