حياة ماري كوري المثابرة التي أعطت العلم كل ما تملك
الأكثر مشاهدة
اسمها خلده التاريخ فهي المرأة التي حققت نجاحات علمية واكتشافات غيرت حياة البشرية واستحقت على ذلك الحصول على أرفع الجوائز والتكريمات العلمية. هي ماري كوري التي ولدت عام 1867 الذي سجل فيه ألفريد نوبل اختراع الديناميت، وتم استخدامه في القتل فندم نوبل وأوصى بمعظم ثروته كجائزة لمن يفيدون البشرية في أي مجال، فكانت منهم تلك النابغة ماري كوري، كأول سيدة تحصل على جائزة نوبل ليس لمرة واحدة ولكن لمرتين في مجالين مختلفين هما الفيزياء والكيمياء. حياتها لم تكن سهلة على الإطلاق بل كانت سلسلة من المعاناة والصراع مع نفسها ومع الظروف المحيطة لكنها انتصرت في أغلب معاركها وتركت خلفها ميراث مهم تتدارسه البشرية جيلًا بعد جيل وتأخذه بالبحث والتعلم والتدقيق.. هذه قصة ماري كوري وسيرة حياتها الرائعة.
عائلة ماري كوري
ولدت ماري سلادوفسكي في بولندا لعائلة يجري العلم في دمائها، فقد كان والدها "فلاديسلاف" بروفيسور في الفيزياء وجدها أيضًا، وعروق العائلة جمعت حب الوطن بجانب العلم، فكانوا يحاربون المحتل الروسي سرًا وعلانية، حتى أنه تم القبض على الجد وتعذيبه في معسكرات الروس لكنه نجا بأعجوبة.
تزوج فلاديسلاف من الشابة المتعلمة التي تدعى برونيسلافا، والتي كانت ضمن قلة متعلمة من الفتيات واستطاعت بقليل من الذكاء الوصول إلى العمل كمعلمة في المدرسة ثم أصبحت ناظرتها، وبعد زواجها أنجبت للأستاذ فلاديسلاف 5 أبناء، أصغرهم تدعى ماريا سالومي وكانوا يطلقوا عليها تدليلًا مانيا، والتي ستعرف لاحقًا بماري كوري.
"أنا لا أمانع أن أعود آنسة بعدما رأيت صعوبة حياة النساء" كان هذا رأي برونيسلافا بعد عناء الموازنة بين مهام الأمومة والعمل، وبعد الكثير من تلك الضغوط تدهورت حالتها الصحية فاستقالت وتفرغت للبيت، ثم تعلمت صناعة الأحذية لتوفر على زوجها جزءًا من أعباء المعيشة.
وعندما بلغت الابنة الصغرى مانيا عامها الرابع، كانت الأم تقطع شوطها الأخير في الحياة، بعد إصابتها بمرض السل الذي جعلها تبتعد عن الأبناء وتتناول الطعام وحدها خوفًا عليهم من سعالها المستمر طوال الوقت، وكبرت مانيا وهي بعيدة عن أحضان أمها ولا تعرف طريقًا للعب والاحتواء، وقد كان الوالد صارمًا أيضًا ويناديه أبنائه باستخدام الألقاب ولا يمكن عصيان الأوامر داخل البيت.
ورغم ظروف المعيشة الصعبة، ضغط الأب على نفسه وأرسل زوجته مع ابنته الكبرى في رحلة استشفائية خارج وارسو حتى تستعيد عافيتها في أجواء جبال الألب النقية وغيرها من الأماكن ذات الطبيعة البكر، وتكفل هو برعاية الأبناء الأربعة الآخرين، وذلك كان عاملًا أساسيًا في تربية مانيا، فالأب استغل كل فرصة ليعلم أبناءه شيئًا عن العلوم والأخلاق، وحتى أبسط الأشياء اليومية المعتادة كان دائمًا يعطيهم فيها دروس أكثر عمقًا من شكلها السطحي، كما غرس في أبنائه حب بولندا والانتماء لها وكراهية المحتل الروسي. لم يكن يقطع تلك الدروس المستمر إلا يوم السبت في الفترة من الـ7 حتى الـ9 مساءً حينما كان الأب يختار نصًا أدبيًا أو قصة ويبدأ في قراءتها بصوت مسموع للأولاد مثل "دافيد كوبر فيلد" وغيرها من القصص التي تمكن من قراءتها بفضل معرفته الواسعة باللغات الروسية والفرنسية والإنجليزية والألمانية بجانب لغته الأم البولندية.
اقرئي أيضا: فاطمة الفهرية التونسية مؤسسة أول جامعة في العالم
طفولة ماري كوري الصعبة
كانت الطفلة مانيا تقضي الكثير من الوقت أمام الخزانة التي يحتفظ فيها والدها بمعدات القياس وأنابيب الاختبار والموازين، ولم تكن تفهم ماهية تلك الأدوات التي ستشكل حياتها فيما بعد، وقد أظهر مانيا ذكاءً ونبوغًا منذ طفولتها ففي الرابعة من عمرها كانت تقرأ بطلاقة حتى أنها أحيانًا تفوقت على أشقائها الأكبر، وتمتعت كذلك بذاكرة قوية تستطيع حفظ أي شيء ببراعة لا توصف.
التحقت مانيا بالمدرسة وكانت أصغر من زميلاتها بعام أو اثتنين، وكانت في مدرسة بولندية تديرها امرأة وطنية مخلصة، فتعلمت الطلبات المناهج البولندية سرًا، وكانت مانيا متفوقة لذلك تتصدى دائمًا لأسئلة المفتشين الروس وتجاوبهم بلغة روسية سليمة حتى لا يتم إفشاء سر المدرسة. كذلك كان والدها يفعل، ففي الخفاء أيضًا كان يحاضر طلابه عن علماء بولندا، وقد اخترقت حجبه يومًا فتم فصله وأصبح بلا عمل وبلا مسكن، وقد قطعت الأم رحلتها الاستشفائية وعادت إليهم.
في تلك الأثناء استأجر الوالد بيت صغير وكان يعلم بعض الأولاد بشكل خاص مقابل المال، الذي لم يكن كثير أبدًا، وقد زادت الأعباء حينما مرض اثنتين من البنات بمرض التيفود وعلى إثره توفيت الابنة الكبرى، مما زاد الحزن في البيت ولحقتها الأم التي لم تستطع الاستمرار في المقاومة، هذه الأحداث الجسام تركت في قلب مانيا جرحًا لا يشفى، وكونت لديها نمطًا اكتئابيًا ظل ملازمًا لها طوال حياتها فيما بعد. وقتها كانت تحبس نفسها لفترات طويلة، تقرأ كثيرًا بنهم حتى تركز على شيء واحد وتنسى حياتها كليًا، ورغم هذا لم تمنعها تبعات الفقد في أن تستمر الأولى على مدرستها، فقد كانت تجد سلواها في الدراسة والتفوق، وتخفي مشاعرها عن العائلة والأصدقاء.
وبعد تخرجها من المدرسة العليا الحكومية في سنة الخامسة عشرة وهي الأولى على كل زملائها، أصيبت مانيا بانهيار عصبي فقد فشلت في إكمال إدعاء الثبات والقوة، وبسبب ذلك أرسلها والدها لأحد أقارب أمها الأثرياء لتقضي بعض الوقت وتستعيد بعض من نشاطها، وهناك عاشت وقتها الذهبي، فهجرت القراءات العلمية وركزت على الروايات والصيد وقطف ثمار الفراولة، وذكرت أنها ظلت ترقص طوال الليل في إحدى المرات حتى تخلصت من حذائها في القمامة لأنه لم يعد صالحًا.. في هذا الوقت عاشت مانيا الطفولة التي حرمت منها لسنوات.
اقرئي أيضا: توحيدة بالشيخ أول طبيبة في العالم العربي من تونس
فصلًا جديدًا في حياتها
عادت مانيا واستمرت تدرس بنفسها وتقرأ في العلوم والفلسفة والسياسة وغيرها، لأنه لم يكن هناك جامعات في وارسو تسمح بدراسة البنات، وكان الأب يوفر كل قرش من أجل تعليم الابن الوحيد الطب، فاستمرت مانيا مع أختها برونيا في الدراسة وعملتا كمدرستين خصوصيتين حتى تتمكنا من جمع المال والسفر إلى الدراسة في الخارج، وفي أحد الأيام أخبرت برونيا شقيقتها الصغرى أنها بالكاد جمعت ما يكفل لها معيشتها في باريس لمدة عام حيث كانت تريد دراسة الطب، فردت مانيا أن على أختها السفر، وهي ستتولى العمل كمربية أطفال وترسل إليها المال لتتم دراستها، وبعد ذلك تتبادلان الأدوار فتدرس مانيا وتعمل برونيا وتساعدها.
سافرت الأخت الأكبر إلى باريس وذهبت مانيا للعمل كمربية في بيت أسرة غنية، وكانوا يعاملوها بشكل جيد ويدعونها للحفلات والولائم، لكنها بسبب عدم توفر المال والملابس المناسبة فضلت أن تبتعد عن تلك وتفرض على نفسها "استعلاء ذهني" عن الأفعال العادية التافهة رغم أنه قبل عام واحد كانت تستمتع بنفس تلك النشاطات.
ووسط انخراطها في العمل، كانت أيضًا مستمرة في التعلم الذاتي، وتقرأ في العلوم المختلفة، ويستمر والدها في إرسال المسائل المعقدة لها ويحذرها ألا تتخلف عن التعليم ولا تنشغل بغيره.
وفي بيت العائلة الغنية اقتربت مانيا من ابنتهم الكبرى، وتشاركتا في مغامرة كبيرة كانت مجرمة وقتها، حينما شرعتا في تعليم أبناء الفقراء اللغة البولندية سرًا، رغم أن عقوبة ذلك كانت النفي إلى سيبيريا.
الحب يدق باب ماري للمرة الأولى
ولم يكن هذا هو الاقتراب الوحيد من آل زورافسكي الأغنياء، فقد أحبت مانيا الابن الأكبر للعائلة، والذي وجد فيها فتاة مثقفة وهادئة وجميلة، ووعدها بالزواج، وحينما واجه أهله برغبته تلك، انقلب كل شيء رأسًا على عقب وطفت الفوارق الطبقية فورًا، واختلفت المعاملة التي تلقتها من العائلة، وقرر حبيبها أنه لا يمكنه الاستغناء عن مكانة الاجتماعية أو أموال عائلته التي يستكمل تعليمه بسببها.. فانتهت قصة الحب، لكن مانيا استمرت في العمل لديهم بسبب حاجتها إلى المال، وهذا الخضوع جعل مزاجًا رماديًا وانسحابيًا لأوقات طويلة وجاء في أحد جواباتها: "آه لو تعرفون كم أتلهف وأتوق للسفر إلى وارسو ولو لبضعة أيام. وعدا أنني لن أذكر شيئًا عن ملابسي المهترئة والتي تحتاج إلى إصلاح. فإن روحي هي الأخرى قد اهترأت"
صبرت مانيا على ما تمر به وحتى سقوطها في مشاعرها السوداء كانت تخفيه وتتماسك وتعمل من أجل ما وعدت أختها به، حتى جاء خطاب من والدها ذات مرة يخبرها أنه حصل على وظيفة جديدة، ليس جيدة في محتواها لكن راتبها يكفيهم وطلب منها ألا ترسل أموالا إلى أختها لأنه سيتكفل بذلك. فتركت العمل في بيت آل زورافسكي فورًا وعادت إلى عائلتها.
تخرجت برونيا من كلية الطب واحدة ضمن ثلاثة نساء فقط بين حوالي ألف خريج آخر، وتزوجت من طبيب يدعى كازيمر دلوسكي، وكتبت يومًا لأختها الصغرى أن تأتي لباريس حتى تدرس العلوم كما رغبت دائمَا، لكن مانيا وقتها كان حلمها قد خفت قليلًا وأصابه الترهل بعض الشيء فلم تكن متحمسة للأمر، وردت على برونيا: "العزيزة برونيا. لقد كنت وما زلت وسأظل غبية طوال حياتي. فلم أكن محظوظة وما زلت وسأظل كذلك. لقد حلمت بباريس للانعتاق والتحرر، غير أن الأمل في السفر إليها قد غادرني منذ وقت طويل. والآن عندما جاءت الفرصة فإنني لا أعرف ماذا أفعل. إنني غير سعيدة بصورة فظيعة في هذا العالم"
وقد أدرك الأب فلاديسلاف أن ابنته ما زالت متعلقة بأمل زواجها من ابن آل زورافسكي، وقد قابلته يومًا بعد أن أخبرت والدها بأن هناك سرًا حول مستقبلها، لكن تلك المقابلة لم تكن سعيدة كما توقعت، وفيها قطعت مانيا علاقتها بكازميرا ابن العائلة الكبيرة، وكأنها كانت تحتاج إلى قطع كل الآمال حتى تعود لحياتها أقوى، وبالفعل كتبت إلى أختها برونيا تسألها أن تعيش معها في باريس إذا كان ذلك ممكنًا، ومن هنا كانت حياتها على موعد آخر وبداية جديدة.
اقرئي أيضا: الملكة إليزابيث الثانية الأطول عمرا على عرش بريطانيا
ماري كوري في باريس
شابة في الثانية والعشرين من عمرها، مثقلة بالحزن ومصقولة بالتجارب، في طريقها إلى بلد مجهول لتدرس وتحقق ما حلمت به منذ الطفولة. قطعت أرخص تذكرة قطار وحزمت حقائبها وأخذت كل ما يمكنها أن تأخذ من البيت، من طعام ومرتبة وكرسي، فلم يكن لديها رفاهية الشراء.
الحياة القاسية التي عاشتها في الطفولة، وقلبها المحطم عاطفيًا في السنوات الأربع الأخيرة، كانا حائطا صد أمام كل ما لاقته في باريس من شظف العيش وعدم التقبل، وحينما ذهبت مع أختها لتسجيل اسمها في السوربون، استخدمت المرادف الفرنسي لاسمها فأصبحت ماري.
كانت بدايتها مرتبكة، لأنها رغم دراستها باللغة الفرنسية كانت تتحدثها بلكنة تنتزع ابتسامات الباريسيين، وهو ما لم يرضها، وكانت مشتتة بسبب الأجواء العائلية الموجودة في بيت أختها، ورغبة زوج الأخت على "الدردشة الفارغة" كما وصفتها، وإصرار الأخت على تناول ماري للطعام حتى لا تتأثر صحتها، كل ذلك –من مظاهر الحياة الطبيعية- كان يشعرها بعدم التركيز. فقررت أن تستأجر غرفة بجوار الجامعة وتعيش وحدها، وحيث أن المال لم يكن كثير فقد حصلت على غرفة بدون مدفأة حتى أن الماء كان يتجمد فيها من شدة البرودة، لكنها لم تشتك وعلى العكس ساعدتها الوحدة في تحسين لغتها الفرنسية لأنها كانت تتحدث إلى الجدران بصوت عال، وأنجزت فروضها بشكل فعال وبدون أي تشتيت.
وقد كانت ماري واحدة من ثلاثة وعشرين امرأة ضمن أكثر من ألفي طالب في كلية العلوم، وكان تحديًا كبيرًا في عصر الكتاب الأشهر به هو "الضعف العقلي الفيسيولوجي عند المرأة".. فعاشت حياة متقشفة لتوفر المال لدراستها التي كانت نابغة فيها، وتمتص العلوم امتصاصًا، ولا تعبأ بتفاصيل الحياة الأخرى، فلا يهمها حتى تناول الطعام، وفي غضون عامين أصبحت إحدي امرأتين فقط في الجامعة وجاءت الأولى على من يدرسون العلوم كافة. وتقدمت بعدها لدراسة الرياضيات وحلت في المركز الثاني على كل الدارسين وكان ذلك مصدر إزعاج كبير لها.
وانفتحت لها الأبواب فحصلت على منح دراسية مالية تسهل حياتها، وأعد لها أستاذها جابرييل ليبمان منحة للعمل في دراسة الخواص المغناطيسية لأنواع الصلب المختلفة، وقد وجدت صعوبة في التعامل مع الأجهزة الثقيلة في معمل الأستاذ ليبمان في السوربون، فاقترحت عليها إحدى صديقات أختها أن تقابل أشهر خبراء فرنسا في قوانين المغناطيسية والذي يدعى بيير كوري، ففعلت.
مقابلتها مع بيير كوري
"حالما دخلت إلى الغرفة شاهدت رجلًا طويلًا في مقتبل العمر يقف أمام نافذة فرنسية تفتح على الشّرفة، بشعرِه الأسودِ المشوب بالحمرةِ وعينيه المترهِّلتين، وقد لاحظتُ تعبيراتِ الحُزنِ والرِّقَّةِ في وجهه، وكذلك عدم التحيُّزِ في سلوكه، الأمر الذي كان يُخفي وراءه شخصًا حالِمًا في ردود أفعاله. أظهر لي مودة وبدا عطوفًا جدًا. وبعد أول لقاء لنا رغب في رؤيتي مرة ثانية ولنستأنف حديثنا حول الموضوعات العلمية والاجتماعية التي كانت من اهتماماتنا والتي بدا أن لنا وجهة النظر نفسها تجاهها." هكذا تصف ماري لقائها الأول ببيير بعد 30 سنة من ذلك.
قابلته وهو اسم لامع في مجاله، لكنه يرى أن المرأة خلقت فقط لتعطيل الرجل، لذلك حافظ على مسافة بينه وبين النساء وكان يرتبك في حضرتهن، إلى أن قابل ماري التي أسرته كليًا. وكلاهما لم يكونا متحفظين تجاه التقاليد، فكانا يلتقيان وحديهما في شقتها الخالية من الأثاث بدون خوف ويتناقشان في كل شيء، ويومًا بعد الآخر يجد كل منها السلوى في الطرف الثاني.
وفي تلك النقطة اختلفا الثنائي، فبيير رأى أنه كان مترددًا حيال الكثير من الأشياء في حياته ما عدا فكرة ارتباطه بماري التي رغب فيها زوجة وشريكة لحياته، بينما كانت هي مصممة على العودة لوارسو وأن تظل صديقة مقربة من بيير بدون أن تحيد عن الطريق الذي اختارته لنفسها.
وظل بيير يحاول معها عن طريق خطاباته التي كان يرسلها طوال فترة الصيف إلى بولندا، وقد كتب في بعضها: "سيكون شيئًا رائعًا.. لنمضي الحياة سويًا جنبًا إلى جنب، تأسرنا احلامنا، حلمك البطولي وحلمنا الإنساني وحلمنا العلمي." وقد كتبت ماري لأختها هيلينا أن إدراك بيير لمعنى العمل بالنسبة لها قد مس شغاف قلبها أكثر بكثير من أي حديث عن الحب.
وعندما بدت أنها متمسكة بالعيش في بولندا وبخططها، قرر بيير أن يذهب ليعيش معها هناك، وساعدته والدته في رغبته، وهذا أخيرًا ساعد في زحزحت ماري عن رأيها، فتزوجا عام 1895، وقضيا شهر عسل على الدراجات طوال الصيف، ثم عادا إلى باريس في أكتوبر معًا ليتحقق حلم بيير بصحبتها.
اقرئي أيضا: ديانا أميرة ويلز آسرة القلوب التي مزقت الأحزان روحها
ماري وبيير كوري
عمل كلًا من ماري وبيير جنبًا إلى جنب، فشجعته على الحصول على الدكتوراه الخاصة به، وساعدها في استخدام جهاز الإلكترومتر – الذي صنعه مع أخوه قبل 15 سنة لقياس الشحنة الكهربية- وذلك أثناء دراستها لليورانيوم، وازداد إعجاب بيير بعمل زوجته، حتى أنه في منتصف عام 1898، ترك أبحاثه حول البلورات وانضم للعمل معها في أبحاثها.
ونشر الثنائي ورقة بحثية مشتركة، أعلنا فيها عن وجود عنصر أطلقا عليه اسم "البولونيوم"، تكريمًا لبلدها بولندا، وعنصر ثانٍ اسموه "الراديوم" ذو النشاط الإشعاعي الكبير.
وفي عام 1900، أصبحت ماري أول امرأة عضوة في مدرسة الأساتذة العليا، وانضم بيير لجامعة السوربون. ثم حصلت ماري على درجة الدكتوراه من جامعة باريس.
وفي ديسمبر 1903، منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم كلاً من بيير وماري كوري وهنري بيكريل جائزة نوبل في الفيزياء، بعد أن كان النية أن يحصل عليها كلا من هنري وبيير فقط وليس ماري لأنها امرأة، لكن بفضل تدخل أحد العلماء المدافعين عن النساء يم وضع اسمها وأصبحت أول امرأة تفوز بجائزة نوبل.. وبدأت تتشكل أسطورتهما من هنا.
ماري كوري أمًا
السنوات التي قضتها ماري في الدراسة لم تهيأها أبدًا للحياة المنزلية كزوجة وأم، فقد كان كل وقتها يذهب للتعلم والقراءة وتجد أن أي شيء آخر هو محض هراء وإضاعة وقت، لذلك حينما تزوجت أخذت الخبرات المنزلية بشكل جاد وتعاملت معها كعلم فأصبحت تسجل وصفات الطهي بالمعدلات والأرقام وأضحت قادرة على إدارة منزل بأكمله، وقد حافظت على مظهر جمالي مهم في بيتها وهو ألا تخلو حجرة فيه من الزهور أبدًا.
وقد ظلت توازن بين احتياجات المنزل وعملها حتى حملت في طفلتها الأولى إيرين وأصابها غثيان الصباح وإنهاك الحمل، وعندما ولدتها لم تصرخ في المخاض ورغم آلامه فقط جزت على أسنانها حتى خرجت الطفلة للحياة. ومرة أخرى تعاملت ماري بشكل علمي فكانت تسجل ملاحظاتها حول نمو ابنتها وتحسب حقائق مثل حجم رأسها وقدراتها المكتسبة كل يوم.. ووسط كل هذه الضغوط عادت نوبات الاكتئاب تهجمها بشدة.
وفي عام 1904، وضعت ماري مولودتها الثانية إيف. ثم استأجرت مربية بولندية بعد ذلك لتعليم بناتها لغتها الأم.
وفاة بيير كوري
كان بيير كوري مدمنًا على العمل في الوقت التي كانت ماري ترغب في اصطحاب البنات للتنزه والاستمتاع بالحياة العائلة قليلًا بعد سنوات من العمل الشقاء، وهو ما لم يكن يريده بيير الذي استمر في العمل لساعات طويلة حتى أن قدمه لم تكن على ما يرام بسبب الجهد كذلك التعرض الشديد لإشعاعات الراديوم.. وفي عام 1906، كان بيير يعبر الطريق وهو يعرج بقدميه وسط أمطار غزيرة، عندما ضربته عربة تجرها الخيول فكسرت جمجمته تحت عجلاتها، وتوفي في الحال وعمره تسعة وأربعون عامًا.
يومها عادت ماري من التنزه مع البنات، وعلمت الخبر فظلت صامتة محدقة في الفراغ لفترة طويلة. وقد كتبت ابنتها إيف بعد ذلك عنها قائلة: "أصبح الاضطراب الداخلي الذي جرح ماري والهلع المجهول للأفكار التي تطوف بخيالها من القسوة بحيث لا تستطيع أن تعبر عنها على شكل شكوى أو فضفضة لشخص قريب.".. ثم عزلت ماري نفسها تمامًا ولم يعد في حياتها أي شائبة مرح من القديم وبدأت في كتابة مذكرات كانت تصف فيها بيير كشخص موجود معهم طوال الوقت، ومنها هذا الجزء الذي كتبته عن جنازته: "وضعت رأسي على التابوت، وكلمتك. أخبرتك أني أحببتك، وقد أحببتك من كل قلبي." وقد أنبت نفسها كثيرًا لأنها لم تذهب معه إلى المعمل في اليوم الأخير، وبالعكس ذهبت للتنزه ضد رغبته الشديدة وكتبت: "عندما غادرت لم تكن آخر كلمة قلتها لك تنم عن حب ورقة.. لا شيء يقض مضجعي أكثر من ذلك."
اقرئي أيضًا: داليدا أسطورة غنائية بدأت من شبرا نحو العالمية
العودة للمعمل
عادت ماري إلى المعمل بعد الجنازة، وحاولت القيام ببعض العمل لكن "شعرت باستحالة الاستمرار، كان بالمعمل حزن لا نهائي وبدا كالصحراء." بعدها استمرت في العمل لمدة 10 شهور كاملة، وتوسعت في تجاربها حول النشاط الإشعاعي الذي يعبر الهواء إلى المواد القريبة. وأكدت ما توصل إليه بيير عن تأثير الجاذبية على المواد المشعة وأكملت كتابه الذي لم يكن قد أنهى سوى نصفه، ثم نشرته باسم زوجها الراحل ورفضت أن ينسب الفضل إليها.
وفي مايو 1906، قرر قسم الفيزياء في جامعة السوربون عرض كرسي التدريس الخاص ببيير كوري على ماري، وقد قبلت وأصبحت أول امرأة تحصل على الأستاذية في جامعة السوربون. ودونت في مذكراتها: "بالأمس ألقيت أول محاضرة بدلًا من عزيزي بيير. أي حزن وأي يأس هذا. إنك ستكون سعيدًا عندما تراني أستاذة في السوربون، ولكن أن أكون مكانك عزيزي بيير، هل من الممكن للمرء أن يحلم بشيء أكثر قسوة من ذلك؟."
ماري كوري تحصل على نوبل من جديد
في تلك الفترة كانت الصحافة تنسب الفضل في كل ما تحقق إلى بيير كوري لأن زوجته انعزلت قليلًا عن ساحة الاكتشافات العلمية خصوصًا تلك المتعلقة بالذرة في وقتها لكن ماري نجحت عام 1910 في فصل عنصر الراديوم، ووضعت تعريفًا لمعيار دولي لقياس الانبعاثات الإشعاعية، "وحدة كوري".
ورغم الحملات التي شنتها عليها الصحافة بسبب مزاعم علاقتها بالفيزيائي بول لانجفان، التلميذ السابق لزوجها، وكذلك عدم حصولها على أصوات الناخبين في الأكاديمية الفرنسية للعلوم لأنها امرأة و"أجنبية وملحدة" بحسب نظرة اليمين، فقد حازت على جائزة نوبل للمرة الثانية عام 1911، وكانت ماري أول من يفوز أو يتشارك في جائزتي نوبل، كما أنها أحد شخصين فقط فازا بالجائزة في مجالين.
وبعد فوزها مباشرة دخلت المستشفى بسبب الاكتئاب الشديد والمعاناة مع مرض كلوي، وظلت بعيد عن معملها لفترة دامت لأكثر من 14 شهرًا.
الحرب العالمية الأولى
انشغلت ماري بالحرب العالمية الأولى، وكانت جنديًا علميًا هامًا على الجبهة الفرنسية حينما رأت الحاجة لمراكز إشعاعية ميدانية قرب خطوط المواجهة، فقرأت في علوم التشريح وميكانيكا المركبات، ثم اشترت معدات الأشعة السينية ومركبات ومولدات مساعدة وطورت وحدات تصوير إشعاعي متنقلة، التي عرفت petites Curies أو كوري الصغيرة، وذلك بمساعدة طبيب عسكري وابنتها إيرين ذات السبعة عشر عامًا، فجهزت 20 عربة أشعة و200 وحدة أشعة للمستشفيات الميدانية، ودربت عددًا من النساء للتعامل مع الوحدات، وتشير بعض التقديرات أنه تم علاج حوالي مليون جندي جريح بفضل وحدات كوري للأشعة السينية.
اقرئي أيضًا: الملكة رانيا زوجة وأم وإنسانة مهمومة بوطنها العربي
وفاة ماري كوري
استطاعت ماري كوري تحقيق الكثير من الإنجازات في مجال الطاقة الإشعاعية، وتخرج من معهدها ومعملها أربعة فائزين بجائزة نوبل منهم ابنتها إيرين جوليو-كوري وزوج ابنتها فردريك جوليو-كوري.. لكن التواجد الطويل بجانب تلك المواد المشعة التي كانت تحتفظ بها في جيبها وأدراجها، أثر بشدة على صحتها فتوفيت بسبب فقر الدم اللاتنسجي، وقد تم التعامل مع أوراقها ومذكراتها وحتى كتاب الطهي الخاص بها بحظر شديد لأنها مواد عالية الخطورة بسبب كمية الإشعاع التي تعرضت لها.
وقد دفنت ماري كوري بجانب زوجها بيير في مقابر سو، وعام 1995 تم نقل رفاتهما إلى البانتيون "مقبرة العظماء الفرنسيين" تكريمًا لهما، وكانت أول امرأة تدخل تلك المقبرة. ماري دائمًا ما كانت تقول: "أنا لا أرى أبدًا ما تم إنجازه، بل أرى ما لم يتم إنجازه بعد".
اقرئي أيضًا:
زها حديد ملكة المنحنى وسيدة المعمار
الكاتب
ندى بديوي
الجمعة ١٥ مايو ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا