مي زيادة حياة حرة بالقلم والأدب.. ورحيل وحيد وموجع
الأكثر مشاهدة
مَنْ كان ليصدق أن كاتبة ومفكرة وباحثة بحجم وثقل مي زيادة، التي كان صالونها الأدبي وجهة أكبر كتاب ومفكري عصرها، من طه حسين للعقاد للرافعي، ترحل وكأنها مجهول، يشيع جنازتها 3 أشخاص فقط، وكأن الابنة الوحيدة كُتب عليها أن تظل في عزلة لآخر يوم في عمرها، دون أن يؤنسها حبيب، أو يراعي حزنها شعراء وأدباء أصحاب قلم رفيع و"حس مرهف".
تعرفي على: حياة ماري كوري المثابرة التي اعطت العلم كل ما تملك
حياة مي زيادة
في أسرة لها أصولها ومستواها الاجتماعي والثقافي، الذي يؤمن بحقوق المرأة وحقها في التجربة والسفر، ولدت ماري إلياس زخور زيادة في 11 فبراير 1886 في مدينة الناصرة الفلسطينية، لتكون الابنة الوحيدة، بعد وفاة أخيها الصغير، لوالدها اللبناني إلياس زخور زيادة، الذي كان يعمل مدرسا للغة العربية وصاحب اطلاع واسع وثقافة عالية، وتواصل دائم مع أعلام الثقافة والأدب في مصر.
والدتها ربة منزل، ورغم عدم شيوع تعليم الفتيات والسيدات في ذلك الوقت، كانت الأم الفلسطينية نزهة أسعد خليل معمر لديها اهتمام بالشعر والأدب، فتحفظ ديوان ابن الفارض وقصائد الشعر العربي عن ظهر قلب، ليبدو أن القراءة والمعرفة أمور نشأت عليها مي زيادة، وصارت ضمن تكوينها، ومنحتها دوما طابعا مميزا في شخصيتها، وحضورا له طعم الفكرة والنبوغ.
تلقت مي زيادة تعليمها الإبتدائي في مدينة الناصرة بمدارس الراهبات، ومع انتقال العائلة إلى لبنان استكملت تعليمها في المرحة الثانوية في عينطورة، وكانت أغلب أوقاتها تقضيها وحيدة في عزلة تقرأ أو تستمع إلى الموسيقى، وتعزف العود أو البيانو، فكانت فتاة مختلفة بروح باحث، تسعدها المعرفة ويؤنسها الاطلاع عن صحبة العالم.
في عام 1907، انتفلت مي زيادة مع أسرتها إلى القاهرة، ويبدأ مشوارها مع الكتابة والأدب من خلال الاختلاط بالواقع الثقافي المصري، صاحب التنوع والتميز، التحقت لتدرس الآداب بجامعة القاهرة، وكانت وقتها قادرة على إتقان تسع لغات، هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية واللاتينية واليونانية والسيريانية، وكذلك العربية التي قررت أن تتبحر في علومها، وتتسع في القراءة حول التاريخ والثقافة الإسلامية، والشعر الصوفي.
وفي زمن، كان الرجال هم اصحاب المشهد وحدهم، وكأنه حكر لهم لا ينازعهم فيه احد، سواء في السياسة أو الصحافة أو الأدب، اخترقت مي زيادة المجال العام، دون ضجيج مفتعل، ولكن بخطوات رقيقة مؤمنة بما تفعل، أصبحت في سنوات قليلة من حضورها إلى القاهرة، محل أنظار الجميع من رجال الأدب، معبرين دوما عن افتنانهم بشخصيتها، وإعجابهم الشديد بحضورها الواثق، وأحيانا مصرحين عن حبهم في انتظار أن تبادلهم نفس المشاعر.
كانت مي زيادة في البداية تدرس اللغتين الإنجليزية والفرنسية للراغبين، واستطاعت أن تجيد اللغة العربية، وأولى مشاركاتها في الكتابة، كانت من خلال جريدة "المحروسة" التي امتلكها والدها وحصل على امتياز إدارتها في 11 يناير 1909، وكتبت فيها المقالات عن المرأة والفن والغرب والعرب كذلك، فكانت مي زيادة تجمع في ثقافتها ما بين الغرب والشرق، مما جعل روحها متحررة وقادرة على الخوض في جميع القضايا بجرأة وشجاعة.
انتشرت كتابات مي زيادة في عدد المجلات والصحف المصرية، منها الأهرام، والهلال والمقطم، في ظل انفراج واسع لحركة نشر الصحف المختلفة، واختارت لنفسها اسم "الآنسة مي" الذي بدأ يتردد بين أوساط المثقفين، نظرا لندرة الكتابة النسائية خلال هذا الوقت، بعد أن كانت من أوائل الكاتبات عن الحركة النسوية، وأدوار النساء في المجتمع، وتتناول تقاليد المجتمع وعاداته بالنقد والتشريح، متسمة بالجرأة والشجاعة في طرح الفكرة ومناقشتها.
ي زيادة استطاعت أن تكون صورة حقيقية غير مدعية للمرأة المثقفة صاحبة الوعي والرؤية، وكذلك القضية، فكونها حظت بفرص تعليم جيدة أكسبتها الثقة والقدرة على التحرر آمنت أن لكل فتاة وسيدة الحق في أن يحصلن على قدر مناسب من التعليم، وليس فقط ما يتعلق بالكتابة والقراءة، ولكن ما كانت تعنيه هو التنوير والاطلاع والمعرفة.
اقرئي أيضا: زنوبيا ملكة تدمر التي غزت مصر ورحلت في ظروف غامضة
مؤلفات مي زيادة
انفتاح مي زيادة على الثقافة الغربية، وإتقانها للغات أجنبية، جعلها على معرفة بالتطورات التي تنشأ في أوروبا في مجالات الشعر والأدب، مواكبة لها، وقادرة على أن تستوعبها، وقامت بحركة ترجمة تعد من علامات التفرد التي ميزتها، فقدمت ثلاث روايات عن الإيطالية والفرنسية والألمانية، من بينها رواية "ابتسامات ودموع" لمكس مولر، بينما كان أول أعمالها ديوان شعري باللغة الفرنسية حمل اسم "أزاهير الحلم"، ولكنها لم تطبعه باسمها، ونشرته تحت اسم إيزيس كوبيا.
"باحثة البادية" هو أول مؤلفات مي زيادة، فكان اهتمامها بنشر تاريخ المرأة العربية، والبحث في النماذج التي يجب أن يتم الاحتفاء بها، وقررت البداية بملك حفني ناصف ناقشت أفكارها بهدوء، وسردت تاريخها بفخر، واتبعتها بؤلفات أخرى عن قامات نسائية أدبية عربية، فقدمت كتابها "عائشة تيمور" الذي تناول سيرة الشاعرة المصرية، وكذلك كتاب "وردة اليازجي" الأديبة اللبنانية التي تعرضت مي زيادة لحياتها وفكرها وشعرها بالنقد والبحث.
ألفت مي زيادة كتب وروايات ودراسات أخرى، ميزها جميعا لغتها المتمكنة السلسة، وأسلوبها العذب الرقيق، فقدمت كتابها "المساواة" الذي يعد دراسة في مفهوم المساواة سواء من خلال الطبقات الاجتماعية أو المفاهيم والنظم السياسية، واعتبرت أن الاشتراكية هو الطريق لتحقيق المساواة بين الجميع.
ويعتبر كتابها "ظلمات واشعة" هو واحد من المؤلفات النسوية الرائدة، كونه يجمع المقالات والخطب والقضايا التي تخص المرأة العربية، ورأيها في دورها في المجتمع، ومساهماتها من اجل تحقيق التقدم الحضاري والاجتماعي والسياسي والثقافي، أما كتابها "سوانح فتاة"، فعرضت خلالها أراءها حول النفس البشرية والحياة، وجاءت روايتها "رجوع الموجة" لتعبر عن علاقة حب ومشاعر إنسانية رومانسية جمعت بين زوجين، ولكن الزوج قرر أن يخون شريكته، وتتصاعد بعدها الأحداث.
وكمن يحاول أن ينشر روحا جديدة تعين المرأة العربية على أن تستقبل حياتها، وتعرف الغاية منها، كتبت مي زيادة كتابها "غاية الحياة" حتى يكون طريقة للتواصل مع النساء العربيات اللاتي لم يوجه لهن أحد خطابا في هذا الوقت، يعينهن على معايشة آلامهن، ويمنحهن بريق أمل، أما اشهر كتبها "بين الجزر والمد" فهو دراسةفي اللغة العربي والأدب والحضارة، ناقشت خلاله مراحل تدهو العربية وأوقات زهوها وانتشارها، معترضة للأمر بكثير من البحث والدراسة المتأنية.
اقرئي أيضا: عائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء أول من حاضرت في الأزهر
صالون مي زيادة
أول ظهور في الوسط الثقافي والأدبي لمي زيادة، كان خلال حفل تكريم لخليل مطران، حين اعتلت المنصة تلقي الكلمة التي كتبتها من أجل الحفل، ثم أعقبتها بإلقاء كلمة الشاعر والرسام والكاتب اللبناني جبران خليل جبران، وكان حضورها متفردا، فظهرت شابة قوية لا تشبه كثيرات من بنات جيلها، لديها رؤية ثاقبة وثقة عالية بنفسها، متحررة وقادرة على التعبير عن ما تريد بوضوح، وكان ذلك لافتا للحضور الذي جمع بين أقطاب الأدب والشعر العربي.
ـ "صالون الثلاثاء" كان أول لقاء هؤلاء المفكرين مع الشابة المفكرة، التي عقدت في شارع مظلوم بمنطقة وسط البلد صالونها الأدبي كل يوم ثلاثاء، ليجتمع أصحاب الفكر المتناقض والمتنوع، وكذلك محبي الفن ومتذوقيه، ليتناقشوا جميعا ويأخذهم الحديث نحو حوارات صاخبة ومنفعلة أحيانا، ولكن كانت مي زيادة قادرة على السيطرة على هذه النقاشات وإدارتها ببراعة ونبوغ.
اعتادت مي في صالونها، الذي كان من بين أوائل الصالونات الأدبية، ونبع من فتاة عادية لديها معرفة واسعة ولكنها ليست نخبوية، أن تستقبل المرتادين بالعزف على البيانو، ثم تطرح القضايا، وتشارك في النقاش بهدوء كمحبة للفن والثقافة والأدب، وصاحبة معرفة واطلاع، مما جعل الصالون يمتد لعشرين عاما، وأصبحت مي زيادة معشوقة الأدباء والمفكرين.
كان الانبهار بتفرد مي وحضورها المميز، من قبل حضور الصالون من طه حسين لعباس العقاد لمصطفى صاد الرافعي، وكذلك أحمد لطفي السيد وبعقوب صروف واحمد شوقي، وغيرهم الكثيرين، للدرجة التي شعر معها بعض هؤلاء بالحب تجاه الشابة الكاتبة المتحررة والمثقفة، وكان من بينهم عباس العقاد والرافعي وطه حسين.
اكتسب "صالون ميّ" شهرة واسعة، وكتب عنه كثيرون يوضحون مآثره وفضله على الحركة الأدبية المصرية، فقال عنه الشاعر إسماعيل صبري
روحي على بعض دور الحي حائمة
كظاميء الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بميّ ناظري غدا
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
فمع تدفق الجميع على صالونها الأدبي، أصبح لمي زيادة حضور لافت في الأوساط الثقافية، وبات مبهرا أن تتمكن هذه الفتاة من الجدل والنقاش، وكان ما ينتج عنه الصالون يصلح لأن يكون مكتبة فكرية شاملة، كما قال العقاد "لو جُمعت الأحاديث التي دارت في ندوة مي، لتكونت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة العقد الفريد، ومكتبة الأغاني في الثقافتين الاندلسية والعباسية".
ومع تهافت المحبين، الذين كانوا من قامات الفكر والأدب خلال هذا العصر، على مي باعتبارها الصورة المثالية لفتاة عربية متحررة وقوية، كما يثظهر كتاب "الذين أحبوا مي.. واوبريت جميلة" للكاتب كانل الشناوي، لم تكن مي زيادة تميل لأي منهم، ولم تبادل أي منهم بالمشاعر، فقلبها كان منشغلا بشخص واحد، تراسله وتحدثه حديثا من القلب وتفيض بمشاعرها له في عذوبة، وهو جبران خليل جبران
مي زيادة وجبران
كانت البداية من قراءتها لروايته "الأجنحة المتكسرة" التي رأت فيها عذوبة ورومانسية، ولغة انفرد بها الكاتب والشاعر اللبناني عن كُتاب جيله، فكتبت عن الرواية وتناولتها في أحد مقالاتها، فراسلت كاتبها، ثم كانت قراءتها لكلمته خلال تكريم خليل مطران، لتبدأ سلسلة من الرسائل امتدت لعشرين عاما لم تلتق فيها مي بجبران، ولو لمرة واحدة، حتى رحل في 10 أبريل عام 1931.
كانت رسائل مي وجبران تحوي كثير من البلاغة والمشاعر الرقيقة النبيلة، فقد يكون الحديث عن الأدب والفكر والفلسفة، ومن الممكن ان يتطرق إلى القلب والوحدة والألم، أو يفصح عن الحب بوضوح، فتقول مي في واحد من رسائلها "ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النذر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.
الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى".
وتضيف في رسالتها "غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها بنت هي مثلي، لها جبران واحد، حلو بعيد هو القريب القريب. تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحب، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران".
ورغم مشاعر مي زيادة الواضحة، اعتبر كثير من المؤرخين أن جبران لم يبادلها الحب، أو لم يبادلها نفس قدر الحب، فقد يحمل لها مشاعر، ولكن ليست بقدر مشاعرها الفياضة العذبة تجاهه، والتي لم تتمكن من كتمانها، معللين أنه دوما ما كان يلقبها في رسائله بـ "الصديقة العزيزة" أو"الآنسة مي"، وأحيانا "الأديبة الفاضلة".
ولكن جبران قال في إحدى رسائله لمي "انظري يا محبوبتي العذبة إلى قدس أقداس الحياة، عندما بلغت هذه الكلمة (رفيقة) ارتعش قلبي في صدري، فقمت ومشيت ذهاباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين! وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب! إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.
تقولين لي أنك تخافين الحب
لماذا تخفين يا صغيرتي؟
أتخافين نور الشمس؟
أتخافين مد البحر؟
أتخافين مجيء الربيع؟
لماذا يا ترى تخافين الحب؟
أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله".
وبعيدا عن صدق حبه لها، أو عن حقيقة مشاعر كل منهما، الأكيد أن مي وجبران تركا واحدة من أبدع كتابات أدب الرسائل في العصر الحديث، ومازالا حديث الكتاب والمؤرخين والمثقفين والقراء، بأسلوب كتاباتهما العذوالسلس وأوراحهما المتاحبة دون رغبة في ما هو أكثر من المشاعر.
رحيل مي زيادة
في عام 1929، رحل والد مي زيادة، لتبدأ سلسلة الأحزان تخترق قلبها، وتطفيء روحها، بعد ان أعقبه رحيل جبران في عام 1931، ثم وفاة والدتها عام 1932، لتعيش بعدها أياما صعبة وقاسية، تعاني فيها الوحدة وألم الفقد، دون أن يساندها محب أو قريب، تراسل أقاربها في لبنان وتصرح بمشاعرها وخوفها من البقاء دون أن تعي ماذا يعنيه وجودها، ولماذا عليها أن تحتمل هذه المشاعر الثقيلة.
انزوت مي وفقدت طاقتها ومحبتها للحياة، لا تأكل ولا تشرب، فقرر أقاربها أن يجعلوها تحضر للبنان، ولم يحتملوا حزنها فأودعوها مصحة عقلية، ليبدو أن للأمر غرض آخر، فالهدف هو النيل من ميراثها والحصول عليه بحجة عدم اهليتها للتصرف به، ليزداد وضع مي سوءا، وتتدهو رحالتها النفسية، ويزداد شعورها بالوحشة.
"أنا قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس"، لتظل حبيسة أربعة جدران لا تدرك لماذا تقبع في هذا المكان؟ في غفلة وتجاهل من جميع ممن كانوا قريبين.
في بحثه عنها، لاحظ الكاتب والمفكر اللبناني أمين الريحاني، صديق ورفيق مشاورها الأدبي، غيابها، ومع علمه بإيداعها مصحة عقلية، أقام الدنيا ولم يُقعدها سوى مع خروج مي زيادة من هذه المصحة في عام 1938، بعد أن وصل الأمر للصحافة ولمجلس النواب اللبناني، وثبت سلامة عقلها، وأبقاها الريحاني لتتعافى من هذه الفترة في مسكن إلى جانبه بمنطقة الفريكة في لبنان، سافرت بعدها إلى إيطاليا لتحاضر في الأدب والفلسفة، ثم عادت إلى القاهرة.
عودة مي زيادة إلى القاهرة لم تعد لها زهو الماضي، فقد ابتعد كل القريبين بعد أن بات حديثها مغلفا بالحزن وغير قادرة على التواصل، مثلما كانت، وأصبحت ترتاب الجميع وقيل إنها أصيبت بالانفصام، فاخترا الكل ألا يحتملوا وجودها، وقضت أيامها وحيدة تشرب السجائر غير مهتمة بنفسها، لتصاب بنوبة قلبية تموت على إثرها في مستشفى المعادي بالقاهرة، صباح يوم 17 أكتوبر 1941.
ترحل مي زيادة وحيدة، دون أن يلتفت لها أحد، وبشيعها ثلاثة فقط من الأشخاص المخلصين، هم: أنطوان الجميل، وخليل مطران، وأحمد لطفي السيد، ويتجاهلها الجميع في كتاباتهم، ولا يرثون رحيلها بعد أن كانوا ضيوفا يحلون في بيتها وصالونها، فقط كتبت عن رحيلها صديقتها هدى شعراوي "كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراقية المثقفة"، ونعى رحيلها أمين الريحاني بمقالته "انطفأت مي".
اعتبر الكاتب والمفكر عمار علي حسن أن ما حدث من الوسط الثقافي المصري غير لائق "جنازتها إدانة للجماعة الثقافية المصرية، فإذا كانوا لم يتحملوها وقت مرضها النفسي، وانسحابها من الحياة، لم يكن لهم أي عذر مقبول أن تُشيع جنازتها دونهم، ولم يكتبوا عنها وعن تأثرهم بصالونها الذي كان قبلة لهم جميعا"، وتركت كلمات تصف حياتها على شاهد قبرها "هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصات، وقد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت، ثم قضت".
اقرئي أيضا:
لجين عمران إعلامية لامعة تحظى بملايين المتابعين
الكاتب
هدير حسن
الأحد ٢٤ مايو ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا