ندا الشاذلي والعمل التنموي لتمكين النساء في مطبخ دوار
الأكثر مشاهدة
الطعام ليس مجرد لقيمات يتناولها الإنسان لسد جوعه، لأنه يحمل أبعادًا ثقافية تجعله رمزًا للهوية وحاملًا للتاريخ ووعاءً للحكايات، فكل إضافة بسيطة لها قصة وكل بيت له توابله وطريقة طهيه والحدوتة الخاصة به، وفقط قلة من الناس يُقدرون تلك المنحة ويعرفون كيف يستفيدون منها ويحولونها إلى قوة اقتصادية، ومن هذا التقدير الخاص انطلقت فكرة "مطبخ دوار" التي تسعى إلى الاستفادة من مهارة الطهي وتوظفها في مشروع تنموي متكامل يسعى إلى تمكين النساء وصقل مهاراتهن من خلال تدريبهن بأسس علمية حديثة ويهدف إلى تحقيق أعلى معايير الجودة التي تجعله قادرًا على المنافسة والاستمرار والنمو في السوق.
قد تكون تذوقت وجبة شهية من مطبخ دوار تشاركت في طهيها سيدات سوريات ومصريات من العاملات في المطبخ، ويمكن أن تكون صادفت صورًا للمبنى الخاص بالمشروع بلونيه الأصفر والأبيض وتصميمه المميز على وسائل التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية، وفي كل الحالات المشروع يحمل الكثير من التفاصيل الملهمة على المستوى الاقتصادي والتنموي تجعله نموذجًا يٌحتذى به. سنتعرف سويًا على حكاية مطبخ دوار وبدايته من خلال ندا الشاذلي المديرة التنفيذية للمشروع.
مطبخ دوار لتمكين النساء
عملت ندا الشاذلي كطبيبة أسنان، ثم مدرسة لليوجا، وكونت خبرة عملية في مجال التسويق والإدارة، وكانت من ضمن المترددين على مركز دوار للفنون والتنمية بوسط البلد، تحضر الفاعليات الثقافية التي تهدف إلى الحوار والتغيير والدمج المجتمعي للوافدين من جنسيات أخرى بسبب الفقر أو النزوح والحروب إلى المجتمع المصري وكذلك للمواطنين المصريين، وذلك من خلال المسرح التفاعلي والدعم النفسي والسيكو دراما والقراءات الأدبية وغيرها. وبعد فترة من التواجد مع فريق دوار والمجتمع المحيط به، عرضوا عليها فكرة مشروع "مطبخ دوار".
اقرئي أيضًا: "ناريا وأهارا" مشروع نورهان وهنا لمساعدة الغارمات
"لاقوا إن الدعم النفسي والأنشطة الفنية مهمة لكن الناس بتروح ولسه مشاكلهم الاقتصادية مستمرة، فليه مايبقاش في نموذج لمشروع مستدام متكامل" هكذا تقول ندا التي اشتركت مع فريق دوار من البداية وفكروا في بيع المنتجات المحفوظة التي تنتجها السيدات السوريات وتبرعن في إعدادها، لكن الأرباح لم تكن تستحق، وبعدها قرروا افتتاح مطعم بوسط البلد، لكن التكلفة كانت كبيرة للغاية، فاستقروا في النهاية على افتتاح مشروع مطبخ وتدريب العاملات به على أسس علمية وتوصيل الطعام للأفراد والشركات.
من هنا بدأ التفكير في مكان المشروع، فاقترح أحد أعضاء الفريق عزبة خير الله، لأنه من سكانها ولأنها ثاني أكبر منطقة عشوائية في مصر، وفُرص العمل بها قليلة وقاصرة على الرجال ولا يوجد قابلية لتمكين وتدريب نساء العزبة. وبالفعل اختاروا أحد البيوت العادية المكون من دورين، ثم أعلن الفريق عن حاجته لسيدات للعمل في مطبخ دوار وبدأت المقابلات الشخصية ووقع الاختيار على عدد من النساء وتم تدريبهن على الطهي وفنونه المختلفة والاعتبارات الصحية وطرق تقديم الوصفات التقليدية وكيف يمكن تحويلها من وصفة متوارثة شفهيًا عن الأجداد إلى وصفة مكتوبة بالطريقة القياسية الصحيحة لفنون الطهي وكذلك كيفية تطوير الوصفات التقليدية لتناسب احتياجات العملاء المختلفة مثل النباتيين وغيرهم. وبعد الكثير من العمل خرج أول طلب من مطبخ دوار في أبريل عام 2018.
اقرئي أيضا: الشيف منى الصباحي والشغف بلمسات الابتكار في الطهي
وبعدها جاء حلم تأسيس امتداد لدوار كمركز للفنون، فاتفقوا مع المهندس أحمد حسام سعفان على تصميم المكان بشكل مختلف مُعتمدًا على مواد وخامات من البيئة المحيطة، وأصبح المكان جاهزًا، يضم المطبخ وفوقه مركزًا للفنون ومسرحًا يخدم أهالي العزبة ويقدم لهم فاعليات فنية مجانية.
والآن يعمل في المطبخ 10 سيدات، هن 4 سوريات و6 مصريات، " هما مش مجرد طاهيات في المطبخ، لأ بيشاركوا في القرارات والإدارة واختيار المنيو وتفاصيل كتير جدًا"، تقول ندا.
وفي خلال عامين من العمل المتواصل استطاع المطبخ تكوين قاعدة من العملاء، ونظم العديد من البرامج التدريبية بالتعاون مع منظمات ومشاريع تنموية أخرى، واستمر الفريق في تقديم حفلات الغداء في المطبخ حتى يتعرف الناس على المكان ويخوضوا التجربة بأنفسهم، وكانت خطة تسويقية للمشروع أيضًا، وقد حظت التجربة بالنجاح وجذبت عددًا من الفنانين وسفراء الدول الأجنبية والجمهور. بالإضافة إلى الأنشطة الثقافية التي تقام في المركز الثقافي من العروض المسرحية والورش الفنية للأطفال وغيرها.
اقرئي أيضًا: ياسمين طارق أم مستقلة تدعم السيدات بالرياضة المنزلية
تأقلم النساء العاملات في المكان لم يكن صعبًا رغم الاختلافات الثقافية، فقد جمعهن حب الطهي والعمل والحكي وارتبطن بعلاقة انتماء قوية بالمكان، وحتى عزبة خير الله التي كان هناك تخوفات لدى البعض من الذهاب إليها، اعتادوا على التواجد بها وعرفوا المكان بالتجربة واختبروا أمانه بأنفسهم، "توزيع المباني عشوائي لكن المكان آمن تمامًا ومحدش فينا اتعرض لأي نوع من المضايقات بالعكس الناس طيبين ومتعاونين."، وتحكي ندا عن أحد المواقف التي علقت بذاكرتها ولمستها بشكل شخص حينما كان الغداء يومًا في المطبخ على شكل "ساندويتشات"، فقالت سيدة سودانية كانت تعمل معهن في البداية، "الأكل مايحلاش غير لما الأيادي كلها تتلم وتخبط في بعضها" فوجدت في كلماتها الكثير من الدفء والإنسانية وتم تطبيق طريقة "اللمة" قبل أن تأتي الظروف الاستثنائية التي نعيشها حاليًا وتفرض قواعد أخرى.
"الدنيا بدأت صغيرة ومع الوقت كبرت وبنينا قاعدة عملاء من الأفراد بس أكتر من المؤسسات زي السفارات والجمعيات والمراكز الثقافية، وكنا بنعتمد على الـEvents (الفاعليات)" هكذا وصفت المديرة التنفيذية للمشروع الأوضاع ما قبل جائحة فيروس كورونا، فقد اختلف الوضع حاليًا وأصبح الفريق يغير في استراتيجيات التسويق الخاص به لتصبح موجهة أكثر إلى الأفراد والبيوت لعدم وجود تجمعات في هذا الوقت.
وهناك حرص شديد من العاملين في مطبخ دوار على إجراءات الآمان والسلامة والتباعد الاجتماعي، فيتم تقسيم العمالة بحيث يكون هناك مسافات آمنة، وهناك مكان مخصص لتغيير الملابس قبل التعامل مع الطعام ويتم مسح الأسطح والأرضيات وتعقيمها أكثر من مرة في اليوم، مع ارتداء الكمامات وغسل الأيدي بالتأكيد، بالإضافة إلى وجود سيارة مخصصة لنقل العاملين حتى لا يضطروا إلى استعمال المواصلات العامة والاحتكاك مع الغير. ويتلقى المطبخ الطلبات قبلها بـ24 ساعة ويتم التوصيل لكل أنحاء القاهرة والجيزة. "بنشتغل على إننا ناخد طلبات في نفس اليوم، بس دلوقتي الأفضل إن يكون الطلب قبل 24 ساعة علشان الناس (العاملات) تفضل في بيوتها أطول وقت ممكن."
اقرئي أيضًا: هنا السادات تزرع العطاء في "نية" أول منصة للعمل الخيري في مصر
تعلمت ندا من التجربة الكثير، ولخصت ذلك في أهمية المشروعات التنموية رغم ما تحتاجه من جهد ومال ووقت لكنها مشروعات مستدامة وقابلة للنمو، "الست بتتطور وبتشتغل وبتكتسب مهارة جديدة وإدراة مالية تقدر تشتغل بيها في أي مكان لو سابت المطبخ، وتقدر تعمل مشروعها الخاص". وكذلك انتبهت لأهمية مشاركة العاملين في اتخاذ القرار والإدارة لأنه يجعلهم جزء أساسي من المكان ويساعد في خلق بيئة عمل صحية أكثر. أما عن ما تحلم به للمشروع فقالت: "يستمر ومايبقاش معتمد عليّ ولا على غيري، ويكون نموذج ناجح يتكرر في أماكن كتير، ويكبر وعدد الستات يبقى الضعف أو أكتر."
اقرئي أيضا:
ماري كوري المثابرة التي أعطت العلم كل ما تملك
الكاتب
ندى بديوي
السبت ٠٦ يونيو ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا