دولت أبيض رائدة المسرح التي تبرأ منها والدها بسببه
الأكثر مشاهدة
تنتمي إلى جيل كان الفن بالنسبة له أهم من الماء والهواء، الجيل الذي أفنى عمره في سبيل تقديم أعمال خالدة، كانت هي بذرة كل ما أنتجته مصر بعد ذلك من مجد وتاريخ طويل، فكانت دولت أبيض واحدة من أوائل ممثلات المسرح، التي ضحت من أجله بعلاقتها بأسرتها التي تبرأت منها، وقدمت على خشبته أدوارا ظلت تتذكر تفاصيلها حتى سنوات عمرها الأخيرة.
تعرفي على: نعيمة عاطف حياة قصيرة لابنة السيرك اللهلوبة
حياة دولت أبيض
ما كان يمكن لمصر أن تمتلك تاريخ فني وسينمائي وصل عمره إلى أكثر من 100 عام، من دون عمالقة أخلصوا بصورة حقيقية لا مفتلعة للمسرح والتمثيل، ومن فرقهم وداخل مدارسهم الفنية تربت أجيال استطاعت أن تثرى الحياة الفنية في مصر، ويتذكرها العالم كله كعلامات سينمائية ومسرحية بارزة، ومن بينهم دولت أبيض، التي رأت في أجيال جديدة عاصرتها مثل سناء جميل وسميحة أيوب قامات فنية، كان عطاؤهاهو ما مهد لهم الطريق.
في أسيوط، إحدى محافظات الصعيد، ولدت دولت حبيب بطرس قصبجي في 29 يناير عام 1896، تعود أصول والدتها إلى روسيا، وكان والدها يعمل مترجما في وزارة الحربية، وكان دائم التنقل وأسرته طوال فترة عمله، خاصة في جنوب مصر والسودان، فدرست دولت المراحل الأساسية للتعليم في أسوان، حيث مدرسة الراهبات.
ومع انتقال عمل الأب إلى أم درمان في الخرطوم، التي كانت خالية من المدارس المخصصة للفتيات، طالب بضرورة وجود مدرسة لهن، وبالفعل، تم إرسال 3 مدرسات راهبات تكفل هو بإيجار بيت لهن، وألحق فتياته، ومن بينهن دولت أبيض، بالمدرسة، التي تأسست بسببه.
لم تُكمل دولت سوى المراحل الأساسية للتعليم، ولكنها اعتادت أن تقدم العروض المسرحية في المدرسة باللغات العربية والإنجليزية والإيطالية أيضا، ولم يكن ذلك بأي دافع منها، ولم يخطر ببالها أن يكون التمثيل والمسرح هو عملها الذي كرست لها حياتها فيما بعد، على العكس عاشت حياة بنات جيلها، فتزوجت في سن مبكرة، وحظيت بطفلتين، ولكن توفي زوجها مبكرا.
بعد وفاة الزوج، عادت دولت أبيض لتعيش مع أسرتها مرة أخرى، وفي فرح إحدى قريباتها، التي كانت تساهم في تنظيمه واستقبال الضيوف، صادف أن رآها الفنان عزيز عيد، الذي كانت تربطه قرابة بالعريس، وكان وقتها واحد من مؤسسي الفرق المسرحية، فأخبر قريبتها "المسرح المصري تنقصه شخصية زي دولت"، وعرض عليها أن تنضم لفرقته المسرحية في الإسكندرية.
"إيه اللي شافه مبهرج أو خارج عن حدود اللياقة يخليه يقول كده" لتعتبر، كما كان سائد وقتها، أن التمثيل مهنة غير مناسبة، وتنوي رفض العرض، ولكن أقنعتها صديقاتها ومن بينهن لبيبة هاشم، الصحفية مؤسسة مجلة فتاة الشرق، أن تقبل بعرضه، فمثل هذا العرض يعني أنها تخظى بموهبة كبيرة لا إهانة كما افترضت هي.
بعد تفكير، خططت دولت أبيض للطريقة التي يمكنها أن تلتحق بها للعمل في المسرح، كونها على علم بأن أسرتها لن تقبل، فادوعت فتاتيها مدرسة داخلية في حلوان، وهربت إلى الإسكندرية، وهناك استقبلها عزيز عيد، وبدأت مسيرتها الفنية مع فرقته، ويقال إن أول أدوارها المسرحية هو دور الكونتيسة في مسرحية "خلي بالك من إيميلي"، وكانت من أوائل السيدات اللاتي قدمن أدورا تمثيلية جادة على المسرح بعيدا عن الرقص والغناء.
ما فعلته دولت لم يكن ليرضي أسرتها، فعلم والدها بما فعلت، وذهب إلى الإسكندرية باحثا عنها، وفور أن وجدها طالبها بالتخلي عن التمثيل والمسرح، والعودة للقاهرة تعيش مع الأسرة وتربي الأطفال، وحاول إقناعها لدرجة أنه خلع طربوشه وألقى به أرضا، وبكى "قال وقتها على آخر الزمن هتفضحينا"، لم يكن للفن قيمته وقتها، ورغم أن والده قرر التبرأ منها وحرمها من رؤية اطفالها، أصرت على أن تكمل مشوارها الفني "حسيت أني عاوزة أعمل حاجة لنفسي ومستقبلي، وحسيت أنه المسرح بيخليني بقدر أعبر عن الحاجات اللي واجعاني وآلاماني وأعيط من خلال التمثيل".
وفي عام 1917، احترف دولت التمثيل، وتوالت مشاركاتها في الأعمال المسرحية بفرقة عزيز عيد،مثل مسرحية "ليلة الدخلة"، وفي بوم صادف أن كان أحد حضور المسرح واحد من أقاربها، وفرو أن رأته حتى فقدت الوعي، وقررت أن تعود إلى القاهرة مرة ثانية، وكانت محطتها التالية مع مسرح نجيب الريحاني.
دولت وجورج أبيض
كانت دولت أبيض قد اعتادت على تقديم أعمال المسرح الدرامية، لذلك لم يستهويها الاستمرار في مسرح نجيب الريحاني، الذي لم تمكث به سوى 4 أيام فقط، لاعتماده على الكوميديا، فأشار لها أن تشترك بمسرح جورج أبيض، الذي اقتنع بأدائها وقدراتها التمثيلية، وقدمت على مسرحه ومع فرقته عدد من الأعمال المسرحية، الماخوذة من الروايات العالمية، منها مسرحية "الملك أوديب"، التي كان الجمهور يتهافت على مشاهدتها.
وبسبب نشوب خلافات في المسرح، نتيجة الشائعات التي دارت عن علاقة تجمعها بجورج أبيض، عرض عليها الزواج على إثرها، قررت أن تبتعد دولت لفترة عن المسرح والتمثيل، وترفض عرضه بالزواج، وصادف ذلك وفاة ابنتها الصغرى، لتبقى ابنتها إيفون وحيدة في حاجة إلى رعاية، فرفضت أن تسافر مع فرقة جورج أبيض في جولته بأمريكا.
لم تظل دولت متوقفة لفترة طويلة، فانضمت إلى فرقة أمين عطا الله، ومسرح منيرة المهدية، وكان منزلها في ذلك الوقت صالون وملتقى لأهل الفن والأدب، فكان يتم الاجتماع به من أجل قراءة الروايات وتحضيرها للمسرحيات، وعمل البروفات المسرحية، كما أقنعها سيد درويش أن تغني وتشارك في أوبريت شهرزاد عام 1921.
عادت دولت لتلتقي بجورج أبيض مرة ثانية، وحينها قبلت عرضه الثاني بالزواج منها، واجتمعت مع فرقته المسرحية في رحلة إلى البلاد الشام، عادت منها لتطوف بالمسرحيات المأخوذة عن الأعمال الدرامية العالمية كل شبر على أرض مصر "كنا بنأدي المسرحيات في كل مكان حتى على القهاوي، ووصلنا لتقديمها لغاية كوم إمبو".
عملت وزوجها في فرقة يوسف بك وهبي، وعام 1935 انضمت دولت إلى الفرقة القومية المصرية، وتتذكر حصولها على راتب شهري وصل إلى 35 جنيها، وتدرجت في أدوارها المسرحية من الفتاة إلى الأم، وتتذكر تأديتها دور أم لجورج أبيض الذي يكبرها بـ 16 عاما، وهو الدور الذي اعتزت بتقديكه وقت ما كانت فتاة في عز شبابها، واشتهرت دولت أبيض، التي نالت لقبها بعد زواجها من جورج، بتقديم أدوار الأم القاسية أو الصارمة على شاشات السينما.
خلال إقامتها في منطقة حدائق القبة، قررت دولت أبيض أن تحيي هذه المنطقة عن طريق الفن، فعزمت على غنشاء مسرح يحمل اسمها، وظلت لسنوات طويلة امتدت من عام 1939، وحتى عام 1944 تمهد قطعة أرض كي تحقق عليها حلمها، وبالفعل استطاعت أن تُطلقه، وتقدم في افتتاحه عرض مسرحي من "لويس الحادي عشر" قدمه جروج أبيض وابنتها سعاد.
وشهد مسرحها خلال هذه الفترة رواجا واسعا، فقدمت فرقة نجيب الريحاني مسرحيات على خشبته طوال شهر رمضان، كما أحيى عليه مطربون حفلاتهم مثل فريد الأطرش، واستطاعت أن تحوله إلى دار سينما أسمتها "هونولو"، ولكن لم تمر سنوات طوال حتى احترقت السينما في حريق القاهرة الذي نال من كثير من المنشآت في 26 يناير عام 1952.
الزواج الذي تم في عام 1923، نتج عنه ابنتها الثانية سعاد، واستمر حتى وفاة جورج أبيض عام 1959، جمعهما الفن والحب والمودة، عاشت على ذكراه بعد رحيله، ورغم أنه لم يخبرها يوما بالتقدير الذي يستحق، لكنها كانت تسمع حديثه الدائم إلى ابنته سعاد "مامتك ست عظيمةاسمعيها في كل اللي بتقوله"، فكانت حاته هي الفن وفقط تاركا لها بكل ثقة إدارة المنزل والأطفال، وكانت تعتبره هي "الابن الأكبر ليا، كان راجل عظيم وقلبه طيب، وميعرقش العداوة".
تعرفي على: هند رستم التي تخلت عن الفن لتكون حرم الدكتور فياض
أفلام دولت أبيض
تعتبر دولت أبيض ممن شاركوا في صناعة حركة السينما في مصر في بداياتها، فكانت مشاركة في أول فيلم مصري ناطق عام 1932، وهو "أولاد الذوات"، الذي شاركه بطولته يوسف وهبي وسراج منير وأمينة رزق، وأخرجه محمد كريم، وتوالت بعدها الأعمال السينمائية التي شاركت بها مثل "الوردة البيضاء"، و"المنتقم"، و"المراهقات"، و"غرام الأسياد"، وكان آخرها دورها في فيلم "إمبراطورية ميم".
تعتبر دولت أبيض مشاركة في اثنين من ضمن قائمة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، هما "المراهقات" عام 1960، وفيلم "إمبراطورية ميم" عام 1972"، وطوال مشوارها الفني، كانت تتعمد أن تختار أدوارا تفخر بتقديمها، وتناسب طبيعة شخصيتها، فتركت أعمالا مسرحية مهمة مثل "الملك لير"، و"كليوباترا"، و"شمشمون" و"دليلة"، ولم يكن اهتمامها بالفن فقط، بل كان للوطن محه في قلبها، فشاركت في تظاهرات ثورة 1919 من أجل الاستقلال.
ونالت عن هذا المشوار وسام الدولة للفنون في عيد العلم عام 1960، غير أنها كانت قد نالت الجائزة الثانية للتمثيل عام 1925، والجائزة الأولى لتمثيل الكوميديا لعام 1926، وسعدت بالتكريم الذي منحه الرئيس الراحل لزوجها بعد وفاته، وسعدت أن يتم تقدير أعماله والإرث الفني الذي تركه.
عام 1953، يقال إن دولت أبيض اعتنقت وأسرتها جميعا الإسلام، بسبب كثرة الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم، وأشيع إنها كانت تقضي أيامها الأخيرة قبل وقاتها في 4 يناير عام 1978، بصبحة أحفاد ابنتيها إيفون وسعاد، تعلمهم وتقرأ القرآن وتستمع له.
اقرئي أيضا:
مي زيادة حياة حرة بالقلم والأدب.. ورحيل وحيد وموجع
الكاتب
هدير حسن
الثلاثاء ١٦ يونيو ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا