منيرة المهدية الوطنية المتمردة سلطانة الطرب والخلافات
الأكثر مشاهدة
منيرة المهدية اسم يعرفه كل من له علاقة بالطرب والتاريخ فهي أول امرأة تصعد على خشبة المسرح في مصر والوطن العربي بأسره، هي سلطانة الطرب التي كان لها جمهور في كل بقاع الأرض. قد تعرف منيرة المهدية من خلال ارتباط اسمها بالحرب على أم كلثوم، خصوصًا عندما جاءت الأخيرة وانتزعت البساط من تحت قدميها وتحولت لأيقونة خالدة بعد ذلك.. لكن الخلاف الفني والغيرة الشخصية، لا يجب أن تؤثر على سيرة واحدة من أهم الأسماء الفنية الخالدة، والتي تعتبر فتحت الباب لمن خلفها ومنهن السيدة أم كلثوم.. وذلك رغم قسوة ما فعلته السلطانة بالطبع.
في هذا الموضوع سنتعرف معًا على سلطانة الطرب منيرة المهدية عن قرب.
نشأة منيرة المهدية
ولدت زكية حسن منصور في قرية المهدية التابعة لمركز ههيا في محافظة الشرقية في مصر عام 1888. توفي والدها وهي في عمر الثامن سنوات ولحقت به والدتها بسرعة ولذلك تولت شقيقتها رعايتها، والتي تقول عنها منيرة أنها كانت قاسية خوفًا عليها واهتمامًا بها. كانت الأخت مصممة على تعليم منيرة قبل أن تتزوج مثل قريناتها، وبالفعل التحقت منيرة بالمدرسة، لكنها كرهتها وكانت كل يوم تترك البيت وكأنها في طريقها للمدرسة ثم تلعب في الشارع حتى يحين موعد عودتها، ولأن الأخت الكبرى لم تقرأ أو تكتب، فإنها لم تكن قادرة على اختبارها أبدًا.. ظل الوضع هكذا حتى بدأت المدرسة تسأل عن سر غياب منيرة الصغيرة الدائم، وعندما واجهتها أختها بالأمر، ردت أنها تذهب بالفعل لكنهم يغارون منها كونها أذكى طالبة، وبحيلة سريعة فتحت كتابها وقرأت على الأخت الكبرى كلمات من أحد الأغاني التي تعرفها من الشارع، فاقتنعت أختها وقررت نقلها من هذه المدرسة، وعليه لم تكن الحيلة تنجح مرة أخرى وأصبحت منيرة مجبرة على الالتزام في الدراسة وقد تعلمت بالفعل قليلًا من القراءة والكتابة قبل أن تتركها.
اقرئي أيضا: توحيدة بالشيخ أول طبيبة في العالم العربي من تونس
اكتشفت منيرة قدرتها على الغناء عندما كانت تسير من وإلى المدرسة وهي تغني، وكانت النسوة يخرجن من الشرفات ليسمعنها، وقد أعجبت أختها الكبرى بالأمر وبالفعل بدأت منيرة حياتها الفنية عن طريق إحياء الليالي والحفلات في مدينة الزقازيق، إلى أن شاهدها أحد أصحاب المقاهى الصغيرة في القاهرة واسمه محمد فرج.
منيرة المهدية في القاهرة
وبالفعل انتقلت منيرة مع مكتشفها الجديد إلى العاصمة عام 1905، وهناك ذاع صيتها وجذب كبار الفنانين ليستمعوا لها ومنهم الشيخ سلامة حجازي وسليمان قرداحي وإبراهيم قباني، وأصبح صوتها المدوي حديث الأوساط في القاهرة، وذلك أيضًا لكونها أول امرأة مسلمة تظهر على المسرح عمومًا، بالإضافة إلى أنها كانت كاشفة عن وجهها وشعرها. وقد اشتهرت منيرة بغناء الطقاطيق الخفيفة التي تتسمح بالمرح والخفة، وهي نوع من الغناء انتشر في فترة العشرينيات من القرن العشرين.
سنة 1914، تأكدت منيرة من نجاحها المبهر فقررت الاستثمار في نفسها، وقامت باستئجار مقهى صغير بحي الأزبكية وأطلقت عليه مقهى نزهة النفوس، والذي تحول إلى ملتقى رجال الفكر والسياسة والصحافة. وفي صيف 1915 ضجت شوارع القاهرة عن ظهور أول ممثلة مصرية في فرقة عزيز عيد، والتي كانت منيرة المهدية، وتجمع الجمهور في مسرح الشانزليزيه في القاهرة ليشاهدوها وهي تؤدي دور رجل في مسرحية للشيخ سلامة حجازي.
اقرئي أيضا: الملكة إليزابيث الثانية الأطول عمرا على عرش بريطانيا
النجاح الكبير أغراها، فانفصلت عن فرقة عزيز عيد، وكونت فرقتها الخاصة وقدمت أعمال كثيرة على مسرح برنتانيا مثل مسرحيات شهداء الغرام، وعايدة، وصلاح الدين. وأصبحت منيرة المهدية تلقب بسلطانة الطرب.
وفي هذه الأثناء ووقت ارتفاع الصوت الوطني ضد المحتل الإنجليزي، كان مقهى نزهة النفوس أحد أهم الأبواق الوطنية في وجه المستعمر، وقد غنت منيرة الكثير ضد الإنجليز وتغنت بأبطال المقاومة، وحين حدثت ثورة 1919 وتم إغلاق كل المقاهي والمسارح، ظل نزهة النفوس مفتوحًا واستمرت منيرة في الغناء وإرسال المزيد من الرسائل المبطنة ضد المحتلين.
ويذكر أنه في الوقت الذي كان ممنوعًا فيه التلفُظ بإسم الزعيم سعد زغلول أثناء وبعد ثورة 1919، قامت منيرة بغناء هذه الكلمات بشكل مبطن: "شال الحمام حط الحمام، من مصر السعيدة لما السودان، زغلول وقلبي مال إليه، اندهله لما احتاج إليه."
تزوجت منيرة من محمود جبر مدير مسرحها عام 1918، وانفصلت عنه بعد 4 سنوات فقط، وبعدها قررت أن تترك مصر وتذهب في جولة فنية في الوطن العربي، وأخذت فرقتها بالفعل وكانت محطتهم الأولى مدينة حيفا في فلسطين، وهناك أطلق عليها الجمهور لقب البرنسيسة لأنها كانت شخصية مرفهة للغاية، ولا تقوم إلى بحفلة واحدة فقط بعد أن ترتاح هي وفرقتها أولًا، وليس كالفرق الأخرى التي تكرر عروضها منذ اليوم الأول للوصول.
جولاتها الفنية
وبعد فلسطين، انطلقت إلى الشام لكنها لم تمكث طويلًا واختارت الذهاب إلى بغداد، التي كانت معروف أن طريقها وعرة والذهاب إليها مفقود، لكن منيرة لم تكن تخشى أي شيء وتحمل سلاحها كالشجعان وبشكل دائمً. لكن الطريق بالفعل كان أخطر مما منيرة توقعت لدرجة أنها شعرت باقتراب أجلها، ومع ذلك نجت هي وفرقتها، وتقول عن ذلك: "نجينا.. إزاي؟ الله اعلم.. لكن من وقتها، وأنا على قناعة تامة بإنه الله عز وجل بيحبني، وبيحميني.. ومن النهارده وأنا متوكلة عليه في كل حاجة.. لتكن إرادته، ولتنفذ مشيئته"
اقرئي أيضا: ديانا أميرة ويلز آسرة القلوب التي مزقت الأحزان روحها
وصلت منيرة وفرقتها بغداد، وبجانب شهرتها كمطربة يسمعها الناس عبر الفونوغراف، أصبحت أيضًا المغامرة التي نجت من طريق الموت، وبعدما قضت وقتًا في بغداد وأحبتها وأحبت أهلها الذين أنشدوا فيها الشعر ورحبوا بوجودها في كل يوم قضته ببلادهم، جاء وقت العودة إلى مصر واختارت منيرة سلوك نفس الطريق مجددًا.
عادت منيرة من سفرها سنة 1925، واكتشفت أن طليقها استغل كل أعملها وقدم فتحية أحمد في نفس العروض بدلًا من منيرة التي قررت أن تعتزل الغناء وقتها.
منيرة المهدية وأم كلثوم
اعتزلت منيرة المهدية الغناء لمدة طويلة، في خلالها ظهرت أم كلثوم وبزغ نجمها وأصبحت الموهبة التي تغلبت على كل من سبقها، وحتى على سلطانة الطرب نفسها وذلك بفضل قوة صوتها وتدربها على أيدي المقرئين ومخارج ألفاظها الممتازة. أخبار أم كلثوم بالبطع وصلت إلى منيرة التي قررت التخفي والذهاب بنفسها للتأكد مما يقال عن هذه الموهبة الشابة، ولكنها لم تستطع إكمال العرض الذي قدمته أم كلثوم لأنها تيقنت أن ما يقال عن عظمتها حقيقيًا.
لكن الغيرة أخذت تشتعل داخلها بعد ذلك، وكلفت الصحفي محمد حلمي صاحب مجلة المسرح بأن يقدم مجموعة مقالات يسخر فيها من أم كلثوم وكانت بعنوان "مئات العشاق ولا أدري ماذا يحبون فيها؟"، والخطة لم تفلح إلا في زيادة شعبية ابنة الريف الموهوبة، مما دفع منيرة إلى التخلي عن كل أفكارها النسوية ودعمها للمرأة وعضويتها بحركة تحريرها، ونشرت شائعة تقول بأن أم كلثوم تعرضت للاغتصاب في بلدتها ولهذا تركتها وأتت إلى القاهرة. وهي الشائعة التي كادت تقضي على كوكب الشرق بسبب غضب والدها الذي لم يفلح في إخماده إلى توسط العقلاء.
ظل الوضع هكذا إلى أن سلمت منيرة المهدية بموهبة أم كلثوم وتم الصلح بينهما في عوامة الأولى. وبعد سنوات من الغياب عادت منيرة عام 1948 وقررت إحياء حفل غنائي حضرته أم كلثوم، لكن سلطانة الطرب كان قد بلغها بها العمر أنها لم تستطع إكمال الحفل، وكانت هذا آخر عهدها بالجمهور.
حصلت منيرة المهدية على العديد من الأوسمة، منها وسام الفنون من الطبقة الأولى تكريمًا من الدولة لرواد الفن، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى من الرئيس جمال عبد الناصر في عيد العلم عام 1961، وذلك قبل أن تتوفى عام 1965.
اقرئي أيضًا:
زها حديد ملكة المنحنى وسيدة المعمار
الكاتب
ندى بديوي
الثلاثاء ٣٠ يونيو ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا