ثريا الشاوي أول ربّانة مغربية.. اغتالها الحقد
الأكثر مشاهدة
ألم في صدر طفلة لم تتعد الثلاثة أعوام، يحتار الأب في أمره ويذهب بها إلى الأطباء والمتخصصين دون حل للصدر المنغلق الذي يحجب عنها التنفس براحة، يخاف الأب أن يفقدها وفي غمرة حزنه وحيرته، يدله طبيب إلى السماء، تشفى الطفلة ثريا الشاوي لكنها تظل معلقة بما رأته في الأعالي، لتصبح أول امرأة مغربية تقود طائرة.
ثريا الشاوي
لم تنعم ثريا الشاوي بحياة طويلة، وجاء رحيلها مدويا وهي ما زالت بعمر الـ 19 عاما، ولكن رحلتها القصيرة كانت حافلة وخلدت اسمها في التاريخ، بينما كانت البداية هادئة وقد توحي بأن الطفلة المولودة في مدينة فاس، وتحديدا في حومة القلقليين بالمغرب، في 14 ديسمبر عام 1936 لن تحظى سوى بما اعتاد المجتمع أن يمنحه للفتيات، ولكن يبدو أن إصرارها صنع مسارا آخر.
والدتها زينة ووالدها عبد الواحد الشاوي، الذي يعد من أهم رواد المسرح في ذلك الوقت، أما شقيقها صلاح الدين الشاوي فكان فنانا مشهورا استكمل مسيرته في أحد مدن فرنسا. كان التمثيل والفن واحد من أهم الأمور التي انشغلت بها الأسرة الصغيرة، وكان للطفلة ثريا الشاوي هوايتها في فك وتركيب الألعاب الميكانيكية، فتفكك هذه السيارة أو تلك الطائرة لتستكشفها.
وهي طفلة بعمر الثالثة، أُصيبت ثريا الشاوي بمرض في الجهاز التنفسي صعبّ عليها التقاط أنفاسها، وفي وقت كان يندر فيه التعرف على أسباب الأمراض وعلاجها، وقع الأب في حيرة ولم يدري ما الحل؟ حتى أشار عليه أحد الأطباء أن يذهب بها في جولة بالسماء داخل أحد الطائرات، حتى يشفي الهواء صدرها وهو ما يبدو غريبا وصعبا، ولكن توجه والدها نحو مطار المدينة، واستطاع أن يقنع أحد الطيارين أن يصحبه وابنته في جولة بالطائرة، وبالفعل تحسنت الحالة الصحية لثريا الشاوي، ولكن قلب الطفلة الصغيرة تعلق بالطيران.
في طفولتها، كانت ثريا الشاوي مهتمة بالفن والأدب كذلك، ففي البداية رافقت والدها مشواره التمثيلي بأداء بعض الأدوار الصغيرة، ومع حضور المخرج لفرنسي أندريه زوبادا إلى مدينة فاس عام 1948 ليقدم فيلمه "البوابة السابعة"، اختار ثريا لتؤدي دورا في الفيلم مع والدها.
أول امرأة مغربية تقود طائرة
منذ تحليقها في السماء وهي طفلة، لم ترحل عن ذهنها تلك الأجواء والمشاعر، وعزمت على أن تدرس الطيران، وهو ما يبدو صعبا وقد يكون مستحيلا، ففي زمن يعتبر تعليم الفتيات أمر ثانوي تحلم ثريا الشاوي بالطيران، فكيف لذلك أن يحدث؟
العبرة كانت في إصرارها وإيمان والدها بشغفها، فمع احتكار الفرنسيين لتعلم الطيران، كون المغرب كانت واقعة تحت الاحتلال الفرنسي حينها، لم تكترث ثريا سوى بتحقيق حلمها، والتحقت بمدرسة "تيط مليل" للطيران في الدار البيضاء، في خطوة كبيرة تسببت في نقل العائلة لمقر سكنها، واضطروا جميعا لمواجهة عجرفة الفرنسيين ورفضهم أن يكون لفتاة مغربية وجود داخل المدرسة.
ورغم خطورة الأمر، تجاهلت ثريا الشاوي الجميع، والتحقت بالمدرسة وتمكنت من تعلم الطيران وسط سخرية زملائها الذكور كونها فتاة، وحصلت على دعم أحد أساتذتها، وبعمر الـ 16 تمكنت من التخرج بعد أن تفوقت في أداء الامتحان، الذي خشيت في البداية من صعوبته، فحسبما قيل، كانت السماء ملبدة بالغيوم لوم يكن الطقس في أفضل حالاته، فيما يبدو وكأنه تعمد من قبل إدارة المدرسة الفرنسية.
أمسكت ثريا بدفة القيادة داخل الطائرة، وارتفعت على علو 3 ألاف متر، ثم قطعت مسافة 40 كيلو متر على شكل دائرة، وقالت عن ذلك، كما يذكر المؤرخ عبد الحق المريني في أحد كتبه، في رسالة لوالدها أنها كانت تعيش أسعد لحظة في حياتها "لم أر إلا ضبابا في ضباب، لكني كنت حذرة أشد الحذر على الاحتفاظ بتوازن الطائرة.. كنت أحسب نفسي كطائر أشارك الطيور في فضائها واستمتع بالحرية الكاملة، وحيدة يؤنسني صوت محرك طائرتي وتقودني معرفتي ومعلوماتي".
صارت ثريا الشاوي أول مغربية تقود طائرة بعد أن نجحت في الامتحان في عام 1951، وهو خر لم يكن للصحف أن تغفله، فاهتم كثير من رموزالمجتمع أن يقدموا لها التهنئة من المغرب وخارجها، من القائد العسكري والمقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي زعيم الحركة الوطنية المغربية، والاتحاد النسوي في الجزائر وتونس، والربانة الفرنسية جاكلين أوريول، كما نالت حفاوة مجتمعية كبيرة.
ومن جهته، كرمها محمد الخامس ملك المغرب داخل قصره، وأثنى على ما فعله والدها من أجلها قائلا له "هكذا أحب أن يكون الآباء"- كما يقول المؤرخ المغربي عبد الحق المريني- وتمت دعوتها من قبل أميرات القصر لحفل تكريم على شرفها.
وبعد فترة، ذهبت ثريا مع أسرتها في رحلة إلى إسبانيا زارت خلالها غرناطة وإشبيلية واستمتعت بالطبيعة وتفردها، في رحلة العودة وعلى متن طائرة الركاب صعدت ابنة الشاوي مرتدية زي الربان، فلاحظ أحد مسئولى الطائرة ملابسها، فسألها عن سبب ارتدائها لهذا الزي، معتقدا أنها فتاة تحب الطيران واشترت هذا الزي للتسلية، ولكن بعد أن أخبرته بحملها لشهادة طيران، أصر قائد الطائرة أن يدخلها إلى كابينة القيادة ويسلمها زمام الطائرة مدة 50 دقيقة، هي زمن الرحلة، وعند الوصول دعا الركاب إلى الإشادة بها كونها استطاعت باحترافية وهي لم تتجاوز الـ 17 عاما، أن تسافر بهم من غرناطة إلى تطوان في سلام.
الفتاة الشابة لم تكن فقط مهتمة بالطيران، ولكنها أيضا كانت مهتمة أن تجعل من بلدها مكانا أفضل، فأنشأت جمعية "أخوات الإحسان"، وأنتجت أعمال في الكتابة من القصص القصيرة والشعر، غير أن موقفها الوطني هو الأبرز والأهم، ففي خضم أحداث سياسية مرت بها المغرب تم نفي الملك محمد الخامس، ومع عودته شاركت ثريا الشاوي في الاحتفالات.
قادت ثريا طائرة ذات محرك واحد وطافت بها فوق الملك محمد الخامس من مطار الرباط سلا حتى القصر الملكي، تلقي على المحتفلين الأوراق الملونة والأشرطة، لكن تسبب ذلك في إصابة رئتيها بتعب شديد، الأمر الذي استدعى تلقيها العلاج في سويسرا لشهور، عادت بعدها لتؤسس أول مدرسة للطيران في المغرب، وإعدت مع وزارة التجهيز والنقل كتابا لتعلم الطيران باللغة العربية.
اغتيال ثريا الشاوي
لماذا يمكن أن تكون ثريا الشاوي مزعجة لأي جهة لدرجة تعرضها لمحاولات الاغتيال أربع مرات؟ لا يعلم أحد إلى الآن، فمع توجيه أصابع الاتهام إلى فرنسا، لم تكن الجهات المختصة قادرة على إثبات ذلك في النهاية، فعلى مدار السنوات من 1954 إلى 1956 تعرضت ثريا الشاوي إلى عدة محاولات تريد أن تنقض على حياتها، وفيما أفلتت من أربع، كانت المحاولة الخامسة هي القاضية المدوية.
في نوفمبر 1954، حاول مجموعة من الفرنسيين وضع قنبلة امام المنزل الذي تسكنه، ورغم انفجارها وإحداثها لخسائر كبيرة، لم تصب القنيلة أي فرد بسوء، وفي نهاية نفس العام، في أثناء ركوبها مع والدها سيارته في أحد الطرق، تم إطلاق ثماني رصاصات عليهما، ولكن كتب لهما عمر جديد، أما المحاولة الثالثة، فكانت في أغسطس 1955، حين قام شرطيان فرنسيان بمهاجمته ووالدتها داخل سيارتها، ولكن الجمع من حولهما حال دون حدوث شيء.
في سبتمبر 1955، حاول شرطيان أن يركبا معها سيارتها لتقلهما غلى مكان ما، ولكنها رفضت، وللمرة الثانية والأخيرة ينقذها من مصير محتوم احتشاد الناس حولها، لتهدأ محاولات الانقضاض على روحها، حتى الأول من مارس 1956، اليوم الذي يسبق احتفال إعلان استقلال المغرب عن الحماية الفرنسية.
في الوقت الذي كانت السعادة تعم البلاد والاحتفالات في كل مكان، كانت ثريا الشاوي قد وصلت إلى منزلها رفقة أخيها صلاح الدين، ترجلت من السيارة بابتسامة محبة نظرت إلى والدتها، التي كانت في انتظارها، وتهيأت للصعود، ولكن فجأة أفرغ أحدهم رصاص مسدسه في رأسها، وتركها غارقة في دمائها.
"ظننت أن أحدهم يمازحنا ضمن اجواء الاحتفالات.. لكنني وعيت على صراخ أمي وكان الأمر حقيقي" هذا ما يتذكره أخوها الاصغر عن الواقعة، فلم يكن يعلم ما الحقد الذي قد يكنه أحدهم لشقيقته للدرجة التي تجعله يقبل على قتلها؟ بعد سنوات كشف ضابط مخابرات مغربي أن من قتلها شاب يدعى أحمد الطويل، وهو عضو في ميليشيا سرية، ليظل الأمر متروك للاحتمالات عن دافعه لفعل ذلك، وعن ضلوع الاستعمار الفرنسي في الأمر.
تم تشييع ثريا الشاوي في جنازة كبيرة حضرها 60 ألف شخص، ولنقلب بوم الاحتفال بالاستقلال إلى عزاء كبير على روح فتاة، عمرها 19عاما، لم ترتكب ذنبا سوى الإصرار والإيمان بأنها تستطيع وأن حقها أن تحلم.
الكاتب
هدير حسن
الأربعاء ٠٩ ديسمبر ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا