هبة عبد الجواد باحثة تعشق مصر وتتبع ”آثارنا المتغربة”
الأكثر مشاهدة
في الثالثة عشر من عمرها، كانت قد أنهت قراءة كتاب "شخصية مصر" لجمال حمدان، الكاتب الذي كانت لكلماته أكبر الأثر في رؤيتها لتاريخ هذا البلد "كان أكتر واحد حبّ مصر". على مدار سنوات دراستها بالجامعة وتجهيزها للماجيستير والدكتوراة، كانت هبة عبد الجواد كمن يتتبع مصدر إلهامه وشغفه ويحقق حلمه، وأرادت أن يكون لها أيضا إسهام يمكن أن يغير في مصير أجيال أخرى قادمة، فسألت عن "آثارنا المتغربة" وتنوي ألا تتوقف حتى تأتي الإجابة.
الباحثة هبة عبد الجواد
الدكتورة هبة عبد الجواد، باحثة مصرية ومنسقة عروض متحفية، درست الإرشاد السياحي في كلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان، ومنحها تفوقها الدراسي فرصة الالتحاق بمنحة للحصول على الماجيستير والدكتوراة في "الآثار المصرية القديمة" من جامعة دورهام Durham. شغلها دوما المصير الذي انتهت إليه الحضارة المصرية القديمة، وتمردت على رؤية الغرب لهذه الآثار والحضارة، وبدأت بمشروعها عن "آثارنا المتغربة" وتمصير ما يكتب عنها.
"الأرشيف الأثري كله مصريين، وهما اللي بيشتغلوا كل المراحل، والأجانب بس هما اللي اسمهم بيتذكر، ويغفلوا حق المصريين" نتيجة دراستها للتاريخ المصري وعمليات البحث والتنقيب عن الآثار لسنوات طويلة، امتلكت هبة معرفة عميقة، ولكن الأمر لا يتعلق فقط بمعلومات وحقائق تريد أن تكشف الحقيقي فيها من المزيف، كونه يمتد إلى محبة صادقة وفخر غير مصطنع بحضارة لها أصول ممتدة منذ آلاف السنين.
البداية كانت من مكتبة البيت، حيث أنهت هبة عبد الجواد قراءة عدد كبير من كتب التاريخ "من صغري بحب اقرأ تاريخ، وكبرت وأنا بحب بلدي بالوضع اللي هي فيه.. لكن عندي مشكلة أفهم إيه اللي حصل؟" تبدو هبة وهي تتحدث لـ "احكي" وكأنها غارقة في حب مصر بآثارها وتاريخها، ولديها شغف كبير تجاه المصريين وتعتز بانتمائها لهذا البلد "أنا بحب أتكلم مع الناس، وبحب المصريين وخفة دمهم".
"فرعونية هي بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكن بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدما في الأرض وقدما في الماء.
وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوي، ولكن برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسا أكثر من ضخم.
وهي بموقعها على هط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط" جمال حمدان- شخصية مصر
عندما تتأثر طفلة بكلمات جمال حمدان، الذي يعد واحد من أهم أعلام الجغرافيا في مصر، فيبدو جليا أن مستقبلها لن يكون كمثيلاتها، فعكفت هبة عبد الجواد على دراسة الآثار، واقعة في غرام القطع الأثرية، ومؤمنة أنها ليست أحجار ولكنها تحمل أرواح صانعيها والمبدعين الذين تركوها.. تتبعت هبة آثار كاتبها المفضل أيضا، وأكملت دراستها في إنجلترا مثلما فعل.
"وأنا بدرس في إنجلترا روحت الجامعة اللي كان فيها، وقريت رسالة الدكتوراة بتاعته" ووعيت لأهمية تمصير التاريخ والآثار، وأن يكون الكتابة عنهم ووصفهم بالرجوع إلى مصطلحات مصرية عامية، قد تكون هي الأقرب والأفضل للمعنى. في "دروهام" درست هبة علم المصريات "اللي للأسف بيسيطر عليه الأجانب ومتفوقين فيه عننا بكتير، وعاوزين نكسر ده"، ولكنها منذ اللحظة الأولى تريد أن تعبر عن "ىثارنا" بالطريقة التي يراها بها المصريون، لا من وجهة نظر الباحث الأجنبي.
في خلال رحلتها من أجل نيل شهادتي الماجستير والدكتوارة، كانت هبة تعمل كباحثة ومنسقة عروض متحفية، أي مسئولة عن الطريقة التي يتم بها عرض القطع الأثرية وكيف يمكن التعبير عنها والإضافات التي تجعل الزوار على معرفة بماهية كل قطعة، فعملت في متاحف مختلفة في إنجلترا، منها المتحف الإنجليزي، ومتحف الآثار المصرية UCL التابع لجامعتها، ومتحف Two Temple Place.
نظمت الدكتورة هبة عبد الجواد أكثر من معرض في المتاحف التي عملت بها في أثناء الدراسة، وكان هدفها أن تظهر جانب مختلف عن مصرالمعاصرة والقديمة وتجمع ما بينهما في أعمال ومعارض تتحدث بلسان المصريين أنفسهم عن حضارتهم لا بعين الأجنبي وعلمه "للأسف محدش يعرف عننا حاجة، وعندنا عقدة الخواجة وفاكرين دايما أنهم أحسن مننا".
بعد الحملة التي ضج بها العالم عن التحرش، وكانت تحت اسم MeToo مع نهاية 2017، أرادت هبة أن تبرز أن المصريات يعملن على مواجهة الاعتداء اليومي على أجسادهن بحملات أخرى مؤثرة منذ ثورة يناير 2011، فقررت في 2018 أن تنظم معرض "اسمعوها: نعلي الصوت على ستات مصر" في متحف جامعة UCL للآثار المصرية القديمة، جمعت من خلاله مجموعة من الصور لمصريات معاصرات من بينهن السيدة الصعيدية التي تنكرت في زي رجل ومنيرة المهدية وفتاة كانت تعمل في الحفريات الأثرية في بداية القرن التاسع عشر "هما هناك ميعرفوش غير السفيرة والوزيرة وميعرفوش الستات المصريات الكادحات".
كان هدف هبة من المعرض أن يكون صورة حقيقية عن المرأة المصرية، بعيدا عن الرواد والملوك حتى لا يرتبط الإنجاز بمفهوم ضيق ويتم إغفال حق السيدات اللاتي يصبح الخروج من المنزل للعمل هو أصعب إنجاز يمكنهن تحقيقه، فضم المعرض كذلك فيديو لمبادرة "بصي" ضد التحرش الجنسي، ورسوم الجرافيتي المناهضة للعنف ضد المرأة والتي انتشرت في منطقة التحرير ووسط البلد في مصر بعد الثورة.
وعرضت توصيف لـ 10 قطع أثرية عبرت عنه سيدات مصريات، ليكون بديل عن التوصيف الذي يضعه الباحثون الأجانب "قدموا تعريفات أفضل من الأجانب، وقدروا يحطوا الحاجات في الإطار بتاعها، وكان وصفهم بيرد على فكرة أن المصريين الحاليين ملهمش علاقة بالحضارة المصرية القديمة"، وجاءتها تعليقات إيجابية متعددة من زوار المعرض "حسوا أنهم شافوا مصر المعاصرة والستات المصريات بطريقة تانية".
آثار مصر المتغربة
تصميم الفنانة مويرعادل لمشروع آثارنا المتغربة
بعد عقود طويلة من هيمنة الأجانب على علم المصريات، قررت هبة عبد الجواد أن تفرط عقد هذا الاحتكار، وأن توقف الطريقة التي يتم بها سرد تاريخ الآثار "شوفت إننا نقدم القطع الأثرية للمصريين عشان يفهمونها ويعبروا عنها وعن نفسهم بطريقتهم، ونرجع نعرضها تاني على الأجانب.. يعني حكي التاريخ بطريقة معكوسة"، فأردات أن يكون للمصريين الكلمة الأولى في التعبير عن آثارهم، ومشاعرهم وقت خروجها لإنجلترا وأوروبا، ولذلك بدأت مشروعها "آثارنا المتغربة".
روادتها الفكرة، بعد مشاركتها في عرض متحفي عن الآثار المصرية القديمة في 2015 في أحد متاحف لندن، بالتزامن مع تعرض تمثال "سخم كا" للبيع من المتحف، وعملت على أن تأتي مشاركتها كمصرية في العرض المتحفي مميزة ومعبرة عن وجود ترابط بين مصر القديمة والمعاصرة، فعرضت قطع ومنتجات يدوية مصنوعة في مصر في معرض الهدايا، بدلا من المنتجات الصينية المنتشرة في كل المتاحف، كما استضافت فرقة مصرية للعزف على هامش المعرض، وجاءت نغماتها من أغاني عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، كما شارك السفير المصري بلندن في المعرض حينها بكلمة ركزت على أن "الآثار المصرية القديمة هي ملك لنا، وأننا نتشاركها مع العالم".
عرضت هبة القطع الأثرية المصرية للزوار بوجهة نظر مصرية، وعبرت عن ضيقها وإنزعاجها من الطريقة التي يتم التعامل بها مع آثار مصر القديمة، والأسلوب الذي يتم سرد التاريخ به، وفي ختام المعرض الذي لقي نجاح واسع وقامت بتغطيته وسائل إعلام أجنبية مختلفة كان دوما يتردد عليها سؤال "أنتي مصرية.. هل عاوزة الآثار تفضل هنا ولا ترجع مصر تاني؟" لم تعلم هبة وقتها ما هو المناسب، ولكنها حملت على عاتقها أن تبحث عن ما يراه المصريون الأفضل.
وعلى مدار ثلاث سنوات، عكفت هبة عبد الجواد على تتبع الطريقة التي يتفاعل بها المصريون مع الآثار والحضارة على مواقع التواصل الاجتماعي "ولاحظت أنه الناس العاديين مهتمين، ولما بيشوفوا الآثار اللي برة بيكون صعبان عليهم نفسهم، ومش فاهمين هي خرجت ليه وإزاي؟"، وقررت أن تخرج بمشروع يوعي بالطريقة التي خرجت بها الآثار المصرية القديمة على بد بعثات الإنجليز والأوروبيين في الفترة من 1880 إلى 1980، ويجدد للعالم نظرتنا- كمصريين- لها.
"آثارنا المتغربة" هو المصطلح الذي عمدت أن يكون عليه المشروع، فاختارت العامية المصرية التي ترتبط مع كثير من الكلمات التي تركها الأجداد على جدران المعابد، وعملت في 2018 على تقديم فكرة المشروع كعمل بحثي للحصول على منحة من هيئة البحوث والآداب البريطانية، بالشراكة مع الباحثة الإنجليزية أليس ستيفنسون، وخمسة متاحف بريطانية هي (متحف بيتري للآثارالمصرية بلندن، متحف وحدائق هورنيمان، متحف مانشيستر، متحف ليفربول، والمتحف القومي بإسكتلندا)، وقررت أن تستخدم القصص المصورة "الكوميك"، وتعاونت مع فنانين مصريين وجمعيات مجتمع مدني ومدارس مجتمعية، حتى تصل فكرتها ببساطة لكل المصريين.
رأت هبة أن استخدام الفن بالطريقة التي يحبها الشباب حاليا هو أفضل وسيلة يمكن الاعتماد عليها من أجل إيصال فكرتها، فبدأت مشروعها في مطاع 2020 بسلسلة "ناصر وهبة وآثارنا المتغربة" التي تتناول عن طريق الرسوم التي يصنعها الفنان ناصر جونيور كيف خرجت الآثار من مصر على يد الإنجليز ودور بريطانيا، حتى يتم عرضها بصورة مبسطة على المصريين.
"لقينا تفاعل كبير من الناس، خاصة أنه دايما المصريين بيبصوا للآثار على أنها حاجة للسياح مش لينا" ومن خلال الرسوم وعرض التفاصيل التاريخية، أرادت هبة أن يتعامل الناس مع التماثيل بوجهة نظر تحمل تقدير، فهو ليس حجر مصمت ولكنه يحمل روح من فكر وصمم "وهما نتاج لحم ودم وتفاعلات مصريين كتير" ووجوده خارج مصر يشبه سفر أي مصري "متغرب".
تتعاون هبة مع مجموعة العصبة، التي تقدم رسوم "كوميك" لأبطال خارقين بهوية مصرية، وكذلك مع "عربية الحواديت"، وهو مشروع حكواتي موجه للاطفال والمراهقين، ونظمت ورشة معه عن التاريخ والآثار للأطفال في محافظة الشرقية، وكذلك مؤسسة علمني، التي تقدم المعلومات للاطفال عن طريق اللعب، معتبرة أن وصول المعلومات الحقيقية عن التاريخ المصري القديم للأطفال، خاصة في المناطق الفقيرة والعشوائية، يمكنه أن يخلق لديهم لطموح والحافز.
حصل المشروع على دعم من جهات أجنبية مختلفة اقتنعت بالفكرة، واستطاعت هبة من خلاله أن تثير الجدل حول الآثار "المتغربة"، وتجعل العالم على علم بوجهة نظر المصريين عن خروج آثارهم "لازم الناس تفهم أنها مهمة وأنها جزء من قصة كبيرة، وأنه المصري هو اللي يحكي حكايته"، وتمكنت من إنشاء أول صفحة باللغة العامية المصرية على أحد المواقع البحثية الأجنبية المتعلقة بالآثار، توضح من خلالها أهمية أن يشترك المصريون في حكي قصتهم، وتعرض صور للقطع الأثرية مع وصف بالعامية المصرية.
تعي الدكتورة هبة عبد الجواد التأثير الذي يمكن أن يحمله مشروعها، متمنية له القدرة على الاستمرار وتغيير الصورة النمطية عن الآثار وربط المصريين الحاليين بتاريخهم وحضارتهم، معتبرة أن أهم خطوة يجب التركيز عليها هي المناهج المصرية "إحنا بندرس مصرالقديمة بصورة تقليدية ومصممين على المصطلحات الفصحى، في حين اللهجة المصرية هي الأنسب وهي المعبرة عن الهوية"، وكان مثالها كلمة "كردان" التي تعد أكثر فصاحة في التعبير من كلمات مثل "حلي أو عقد".
تتفق هبة مع رؤية الكاتب محمد حسين هيكل في أن "الباحث المصري أفضل من أي باحث أجنبي، وأنه الأولى بالحديث عن تاريخه"، مفترضة أن توقف المصريين عن استغلال الكنز الأثري الذي يمتلكونه سببه "أننا بنشوفه بعيون الناس وكأنه حاجة بنبهر بيها العالم، لكن مش فاهمين نستفيد منه إزاي اجتماعيا بالأخص"، متمنية أن يهتم التاريخ بالناس العاديين واحتكاكهم بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بيهم، مهتمة دوما أن يتم حكيه على لسانهم.
الكاتب
هدير حسن
الإثنين ١٤ ديسمبر ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا