سناء البيسي ”حريفة” الكتابة وأسطورة الصحافة العربية
الأكثر مشاهدة
لولا صديقتها، ما كان يمكن للصحافة المصرية والعربية أن تحظى بها كواحدة من "حَريفًة" الكتابة، فهي سناء البيسي فنانة اللعب بالكلمات والتشبيهات، وأستاذة السير الذاتية التي استطاعت أن تبني مدرسة خاصة بها في الصحافة، وتخرّج منها أجيال ساهموا في تقديم محتوى أمتع القراء وشاركهم قضاياهم، ليصحبها قلمها منذ كانت في السابعة عشر من عمرها وحتى الآن، دون أن تتخلى عنه.
الكاتبة سناء البيسي
كان لموهبتها أساس، ولرغبتها في المعرفة وطموحها الذي لم يهدأ يوما جذور بدأت من بيت طفولتها في العباسية، حيث كان يملك والدها مكتبة ضمت أمهات الكتب والمخطوطات، مما جعل احتكاكها بالورق واختبارها للمعرفة عن طريق القراءة أمر بديهي، خاصة مع خلفية والدها حسين حسن البيسي المهتم يالثقافة والأدب، ودراسته للحقوق، وكذلك عمله كمدير للآثار العربية والإسلامية.
امتلك الأب قدرة جيدة على الكتابة مكنته من تأليف عدد من الكتب في الفقه والشريعة، نظرا لتعمقه في القراءات الإسلامية واهتمامه بالأدب، وكان كمن يبحث عن من يتشار معه هذه الاهتمامات، فكانت الابنة الوسطى سناء البيسي، بين أختها الكبرى آمال والصغرى بثينة، هي من كانت منجذبة نحو تقليد والدهت، الذي كان يجلسها إلى جواره وهي ما زالت في الخامسة من عمرها لتقرأ الجريدة.
ولدت سناء البيسي في 3 أغسطس 1937، وعاشت سنوات طفولتها مهتمة بالقراءة حول الأدب العربي والروسي، فلم يكن هناك كتابا لا يمكنها قراءته، حتى أنها أنهت قراءة "ألف ليلة وليلة" وهي فتاة في العاشرة من عمرها، وكان لذلك أثره على امتلاكها لمهارة وفصاحة لغوية جعلتها دوما محل تقدير من مدرسيها، فكانت تحصد الجوائز في اللغة العربية والتعبير.
مالت سناء البيسي للمواد الأدبية، ولكنها أبدت تفوقا ملحوظا في الثانوية العامة، وكان مقررا لها أن تلتحق بكلية الحقوق كأمر بديهي بسبب دراسة والدها لها، امتلاء مكتبة المنزل بكتب القانون كذلك، ولكن زيارة من صديقتها الكاتبة صافيناز كاظم كانت كفيلة بتغيير مسارها المهني بالكامل، فتقول البيسي "أخبرتني بافتتاح قسم جديد للصحافة في كلية الآداب" لتجد نفسها ودون أدنى تراجع، تسحب أوراقها من كلية الحقوق إلى الآداب.. وتبدأ رحلتها مع صاحبة الجلالة عام 1953.
"حضر الأستاذ مصطفى أمين ليلقي علينا محاضرة لم أفهم معظمها لأنه كان ينفث كلماته بين أنفاس سيجارته التي غرسها بين شفتيه قضاعت كلماته مع الدخان" ما بين المخاطرة الذكية والحس الفكاهي المميز كتبت سناء البيسي هذه الكلمات، بعد زيارة للكاتب الصحفي ومؤسس أخبار اليوم مصطفى أمين لقسم الصحافة متحدثا عن المهنة وأصولها، وكانت سناء في عامها الدراسي الأول، طلب منهم أمين كتابة خبر عن زيارته، فكانت تلك هي كلماتها التي كانت مفتاحها نحو عالم الصحافة.
أثارت صياغتها للخبر، ووجهة نظرها التي تحمل قدرا كبيرا من الاختلاف والجرأة، فضول مصطفى أمين، ومنحها الفرصة للتدرب في أخبار اليوم، لتبدأ مشوارها مع الكتابة وهي فتاة عمرها 17 عاما، ولكن بعقل راجح وطموح لا حدود له، وفتحت لها الفرص لتكون واحدة من أهم الكُتاب في العالم العربي، وخليفة عائشة عبد الرحمن (ابنة الشاطيء) كما تمنى والدها، وكما تنبأت لها ابنة الشاطيء نفسها في لقاء جمعهما في مبنى جريدة الأهرام.
حصلت سناء البيسي على ليسانس الآداب (قسم الصحافة) عام 1958، وكانت من قبلها قد انخرطت في العمل الصحفي، الذي بدأته بالتدرب على يد عملاقي "أخبا اليوم" التوأمين علي ومصطفى أمين وكذلك أحمد بهاء الدين، حتى أوكل لها مهمة تحرير صفحة كاملة بالجريدة تحت عنوان "قيل وقال"، لتكون مسئولة بعدها عن رئاسة قسم المرأة، فكانت مهمتها إصدار ملف كامل عنها في مجلة "آخر ساعة" يأتي تحت عنوان "النصف الحلو".
امتلكت البيسي موهبة الرسم، وقدمت رسومات ولوحات في الفن التشكيلي، كما كانت تصمم "الموتيفات" الخاصة بجريدة أخبار اليوم في الصفحة الأخيرة، وكان الفن هو الطريقة التي تعرفت بها على منير كنعان، كبير رسامي دار أخبار اليوم، الذي أجبرها على الجلوس أمامه لساعات ليرسمها "أدمن الجلوس أمامه لساعات في وضع متحجر، أعاني جاهدة ألا يعتز لي طرف، أو أرعش عيني، أو أطرقع مفاصلي.. ويهون التعب كله في لحظات للحوار والوئام والتهافت والتراحم والحب والارتباط"، فتزوجته في عام 1963 وأنجبا ابنهما الوحيد هشام.
كما رسمها زوجها منير كنعان
بعد زواجها منه، اعتزلت سناء البيسي الرسم واللوحات، مكتفية أن تسكن لوحاته وتسكنها رسوماته وأعماله حتى بعد رحيله في 1999، وصارت منشغلة بالكتابة وبتقديم أعمال صحفية تغزل كلماتها بحب وشغف لما تقوم به، فساهمت في صنع تاريخ الصحافة الحديثة وساعدت على تطويرها وتقديم أجيال جديدة تتلمذت على يديها.
بعد فترة، ومع أوائل الستينات صارالوقت مناسبا للانتقال إلى مؤسسة صحفية أخرى عريقة، فكانت "الأهرام" هي محطتها التالية، التي تمكنت من أن تبرع فيها وتكتسب الخبرة على يد الماتب محمد حسنين هيكل، وتخلق علاقة مبنية على الحب والانتظار والمشاركة مع قرائها، فتخاطبهم بلغة أحبوها، وعن موضوعات تمس حياتهم اليومية.
مع نبوغها، وكما يذكر الكاتب عمر طاهر في كتابه "صنايعية مصر" عنها، أراد الرئيس السادات ان يجعلها مسئولة عن مجلة "حواء" ولكنها لم ترد أن تنخرط في خطوة كتلك ورفضت، ثم طلب منها أن تترأس قسم المرأة في جريدة "مايو" التي كان يُفترض أن تكون جريدة الحزب الحكام وقتها، ولكنها تملصت من الطلب مرة ثانية، حتى صارت مسئولة عن قسم المرأة في جريدة الأهرام.
وبعد عشر سنوات من محاولات إجبارها على تأسيس مجلة نسائية تابعة لمؤسسة الأهرام، أمهلها إبراهيم نافع شهرا واحدا لتكون المجلة جاهزة، فظهرت "نصف الدنيا" للنور في فبراير عام 1990، وجعلت منها مدرسة للصحافة ومركز للثقافة والنعرفة، فلم تجعلها مجلة عن المرأة وحدها ولكنها منبر ينهل منه جميع القراء، فيستمتعون بكتابات أحمد بهاء الدين وكلمات يوسف إدريس.
وعلى صفحات "نصف الدنيا" قرأ الجماهير سلسلة من مقالات "أحلام فترة النقاهة" التي اختص نجيب محفوظ سناء البيسي بها ونشرها في مجلتها، وقال لها "هيهات أن أبلغ ذروة البلاغة التي تتمتعين بها"، لتكون هي معدة الأحلام وكاتبة مقدمة عنها عند تحولها إلى كتاب، كما نشر "أصداء السيرة الذاتية" على صفحات المجلة كذلك.
وعلى مدى 17 عاما هي عمر رئاستها لمجلة نصف الدنيا، وما يقرب من 50 عاما في الصحافة، تمكنت سناء البيسي من المساهمة في تقديم قوالب صحفية مميزة وكأنها كما قال عنها هيكل "يا ابنتي هو أنتي الوحيدة اللي بتشتغلي في مصر"، وتظل تطل على الجمهور من خلال مقالات أسبوعية في عدد من المجلات والجرائد المصرية والعربية.
مؤلفات سناء البيسي
إلى جانب إسهامتها فيالصحافة، قدمت سناءالبيسي مجموعة من الكتب والأعمال الأدبية المميزة، كان آخرها "دندنة" الصادر عن دار نهضة مصر في يناير 2020، الذي وثقت الدندنة والموسيقى العربية التي أثرت في وجدانها الشخصي والجمعي كذلك، كما سبقه كتب "امرأة لكل العصور" عام 1984، الذي حوله صلاح جاهين إلى مسلسل "هي وهو"، كما ألفت المجموعة القصصية "في الهواء الطلق"، و"الكلام الساكت" و"مصر يا ولاد"، و"أموت وأفهم"، و"عالم اليقين"، "الكلام المباح"، و"سيرة الحبايب- 55 شخصية من قلب مصر".
ويقال إن أغنية "ما تجيب لي الشيكولاتة" التي غنتها سعاد حسني في مسلسل "هو وهي" كانت سناء البيسي هي الوحي لها، حين كان صلاح جاهين يبحث عن الخيط الذي يبدأ به كلمات أغنية تناسب روح المسلسل المرحة، فاتصل بها في وقت متأخر "سناء هو لما تحبي تدلعي على جوزك، بتطلبي منه إيه؟"، فقالت "شيكولاتة"، رد "طيب لو ساحت"، قالت له بتذمر وتململ "يبقى ساحت وراحت مطررح ما راحت يا جاهين".. فكانت الأغنية التي أدتها سعاد حسني بخفة ودلال.
الكاتب
هدير حسن
الجمعة ٠٨ يناير ٢٠٢١
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا