فاطمة رشدي ملكة المسارح التي أفنت مالها إخلاصا للفن
الأكثر مشاهدة
"اسمعي يا فاطمة، ساعات الجوهرة بتبقى في الأرض وعليها تراب، يجي واحد زي أستاذ عزيز ويلمعها ويخليها بتبرق" هذا ما أخبرها به محمد بيه تيمور عندما كانت ما تزال طفلة في العاشرة من عمرها، فتعرفت من خلاله على عزيز عيد، رائد المسرح العربي، الذي كونت معه ثنائي حفر اسم فاطمة رشدي كواحدة من أعظم فنانات المسرح في مصر والعالم العربي، ومنحها لقب "سارة برنار الشرق".
فاطمة رشدي
في عام 1908، ولدت فاطمة رشدي في الإسكندرية، لم يتمكن أحد من التحديد بدقة لليوم الذي ولدت فيه، فترجح بعض المصادر أنها مواليد 3 فبراير بينما تشير مصادر أخرى إلى ولادتها يوم 15 نوفمبر. نشأت فاطمة محمد في منزل معني بالفن، وكانت شقيقتيها الأكبر (رتيبة وأنصاف) تعملان في فرقة أمين عطا الله، في الوقت الذي كانت الفرق المسرحية والعروض بدات تنتشر وتكتب شهر واسعة وجماهيرية كبيرة.
لم يخطر ببال الطفلة ذات التسعة أعوام، أن زيارة للفرقة التي تعمل بها شقيقتاها يمكنها أن تكون الفرصة التي تخلد اسمها وتجعلها واحدة من رائدات المسرح العربي ومخرجات السينما القليلات في بدايتها، ولكن يبدو أن الأقدار تعرف مَنْ تختار وأن لحضور فاطمة طلّة ميزة، جعلت مدير الفرقة يطلب أن تعمل معهم فتغني وتمثل مع الفرقة، وتتلقى إعجاب الجمهور.
بعد معرفة سيد درويش بموهبتها، قرر أن يدعمها ويساندها فأوكل إلى أحد أصدقائه عبد الرحمن رشدي مهمة أن يطور من مهاراتها فكان يدربها في فرقة مسرحية صغير وجمعية فنية يديرها في الإسكندرية، ثم منحها اسمه فصارت تُعرف بـ "فاطمة رشدي"، وكان هو الدليل للقاهرة ولفرقة نجيب الريجاني.
اصطحب عبد الرحمن رشدي فاطمة وأسرتها إلى القاهرة، وجذبهم للذهاب إلى نجيب الريحاني داخل مسرحه، الذي كانت حتى آخر أيامها تتذكر تفاصليه وتحكيها بشغف "دخلت المسرح لقيته مليان ستات أجنبيات لبنانيات على إنجليز على طليان كأنها عصبة الأمم"، فاقتربوا منهم جميعا، وقدمهمم عبد الحمن رشدي إلى نجيب الريحاني، وأدت فاطمة أغنية جديدة حفظتها لفتحية أحمد، ثم رددت الفتاة الصغيرة "طلعت يا محلى نورها.. شمس الشموسة" ومن ورائها جميلات المسرح.
كان أداؤها مميزا عبر الريحاني عن سعادته به، وكان أحد المهتمين بالفن والمسرح محمد بك تيمور يستمع لها، فطلب منها "تعرفي يا شاطرة تيجيلي بكرة الساعة 10 في قهوة راديو"، وهناك جمعها محمد بك بواحد من أهم رواد المسرح ومُكتشف كثير من الفنانات والفنانين المصريين والعرب "عزيز عيد"، والذي وصفه محمد بك "ده بتبقى الجوهرة في الأرض وعليها التراب، ياخدها يمسحها وبنضفها ويخليها تبرق".
تبنى محمد بك تيمور موهبتها، وترك لأسرتها ولعزيز عيد مبلغا من المال قبل أن يسافر إلى أوروبا، وكانت ما تزال في الحادية عشرة من عمرها ورأى أن دخولها مجال الفن دون أن يكون لديها معرفة جيدة سيكون غير مُجدي، فقرر عزيز عيد أن يعلمها القراءة والكتابة وجلب لها محفظ من الأزهر الشريف لتُجيد مخارج الحروف، وفي نفس الوقت كانت تنتقل بين مسارح روض الفرج.
"دخلت لقيت عالم وجيه، تياترو شيك، وممثلين من أرقى ما يمكن" هكذا وصفت فاطمة رشدي المسرح الذي كانت تقدم عليه فرقة رمسيس المسرحية عروضها، وحيثت التقت لأول مرة بيوسف بك وهبي بعد أن عرّفها عليه عزيز عيد، واستكاعت أن تقنعه بالانضمام إلى فرقته، وكانت في البداية تؤدي أدوارا صغيرة في عدد من المسرحيات التي تقوم ببطولتها "روز اليوسف".
شاركت فاطمة رشدي في أداء مسرحيات من الروايات العالمية (غادة الكاميليا، والنسر الصغير، توسكا..)، وكان للفرقة القدرة على منافسة الفرق الأجنبية والتفوق عليها، ومع مرور السنوات تمكنت الفتاة الصغيرة من أن تثبت قدراتها التمثيلية، وأسند لها يوسف وهبي دور البطولة في رواية "النسر الصغير"، الذي كان أول أدوار البطولة على المسرح، واستطاعت في خلال أسبوع واحد أن تتقنه، وتكتسب من خلاله محبة الجمهور، وظلت تتذكر الحوار والكلمات حتى آخر أيامها.
من "النسر الصغير" نالت فاطمة رشدي لقبها "سارة برنار الشرق"، كونها أدت نفس الدور الذي اشتهرت بها ممثلة المسرح الفرنسية سارة برنار، واستطاعت أن تتقنه وقال عن أدائها الناقد السوري سامي الشمعة "وإننا لنرجو أن يُقبل الشباب على روايات فاطمة رشدي العظيمة وهي فرصة لا يجدر بهم إضاعتها". توالت بعدها الأدوار التي قامت فاطمة رشدي ببطولتها، خاصة مع رحيل روز اليوسف من الفرقة، فحلّت محلها في أداء أغلب الأدوار الرئيسية، وبدا وكأنها تشربت الخبرة والموهبة، واستطاعت أن تطّور من إمكانياتها للدرجة التي يمكن معها أن تؤسس لفرقتها الخاصة.
بعد سنوات من لقاء على القهوة في قلب القاهرة، وأيام أخرى قضاها يدربها ويعلمها ويتبنى موهبتها وترى فيه أبا فتسميه "بابا عزيز"، تتزوج فاطمة رشدي من عزيز عيد في أحد الأيام، بعد أن أعلن إسلامه، ليكون زواجهما فرصة لأن يجتمع اثنان على حب الفن والإخلاص له، ويتمكنا معا من صنع أحد أمجاد المسرح والفن في مصر في عصر كان المكسب هو حب الجمهور وتصفيقه الحاد.
أسست فاطمة رشدي فرقتها المسرحية، لتنافس فرقة رمسيس ومؤسسها يوسف وهبي مَنْ كان يوما أستاذا لها وتتمكن من اكتساب شعبية كبيرة، فعلى مدار سبعة أشهر فقط قدمت 15 مسرحية بخلاف العروض الفنية والمونولوجات، كما كانت بوابة عشرات ممن عرفناهم كنجوم سينما كمحمود المليجي بشارة واكيم واستيقان روستي وحسين رياض وزوز الحكيم.
"عملنا موسم مثلنا فيه 30 رواية" تحكي فاطمة رشدي كيف كان ذلك هو العصر الذهبي للمسرح في مصر، فهو وجهة الجميع للتسلية والاستمتاع والثقافة، والممثلين بين هذه الفرقة وتلك والمنافسة على أشدها، والجميع ينتظر الجديد من الريحاني أو يوسف وهبي أو فاطمة رشدي، وكان يحرص الشعراء والمطربين والأدباء أيضا على الحضور، فمنحها أحمد شوقي فرصة تمثيل مسرحياته مجانا، وكان يلحنها محمد عبد الوهاب.
يقترب عدد المسرحيات التي قدمتها فاطمة رشدي من 200 مسرحية، في الفترة من بدء نشطها الفني وحتى منتصف الستينات وكان أشهرها (العواصف، غادة الكاميليا، مصرع كليوباترا، الصحراء، جان دارك، ميرمار، الحرية، قصر الشوق، يوليوس قيصر)، واستطاعت دوما أن تحافظ على محبتها للفن وحضورها المميز.
طافت فاطمة رشدي بأعمالها المسرحية وفرقتها لبلاد الوطن العربي من بيروت للعراق "كنا نعرض الروايات العالمية لمدة 9 سنوات، مفيش قطر عربي إلا وزرناه، وكنا أحسن دعاية لمصر"، ولكن بعدها بسنوات تكالبت الأزمات على المسرح، فتم حل الفرق المستقلة وصار هناك فرقة واحدة قومية، فخفت نجمها وفقد المسرح بريقه، وفقدت معه فاطمة رشدي مكان تألقها الأول ومساحتها الحرة للتمثيل وإسعاد الجماهير.
أفلام فاطمة رشدي
مع بدء الأعمال السينمائية، كان لفاطمة رشدي مساهماتها أيض، رغم أنها لم تكن بننفس قوة ما قدمته على المسرح، ولكنها تمكنت على مدار عشرات السنوات أن تقدم أفلام سينمائية اجتهدت في أن تُظهرها بأفضل صورة، وتعلمت الإخراج والتأليف لتقدم أعمالها بنفسها.
كان أول أفلامها هو "فاجعة فوق الهرم" عام 1928، شاركها بطولته بدر لاما ولكنه لم يلق الإعجاب المتوقع، فتعرض لكثير من الانتقاد، وأتبعته بفيلم "تحت سماء مصر" الذي قيل إنها أحرقته لأنه كان أكثر سوءا، فابتعدت عن العمل السينمائي لفترة وعادت بعدها بفيلم "الزواج" عام 1933 الذي قامت بتأليفه وإخراجه، وشاركها بطولته محمود المليجي ونجمة إبراهيم، واستطاعت من خلاله أن ترسخ لوجودها على الساحة السينمائية.
قدمت فاطمة رشدي 16 فيلما سينمائيا، كان أشهرها (الهارب، ثمن السعادة، العزيمة، غلى الأبد، الطريق المستقيم، بنات الريف، مدينة الغجر، غرام الشيوخ)، تعاونت خلالهم مع أهم المخرجين والممثلين في هذا الوقت.
وفاة فاطمة رشدي
كان آخر ظهور لها في برنامج "مذيع لأول مرة"، حين قرر فريد شوقي أن يستضيفها وقت مرضها بالمستشفى كتتويج لمشوار فني طويل كانت دوما مخلصة له حتى بعد اعتزالها أواخر الستينات، فتركت أعمالا فنية مسرحية وسينمائية خالدة وكانت واحدة من الرواد الذين ساهموا في صناعة تاريخ الفن المصري، وقدمت له الكثير.
حازت فاطمة رشدي على ألقاب "سارة برنار الشرق" و"صديقة الطلبة" كونهم اعتادوا أن يروا صورتها على أغلفة المجلات والكتاب، و"رائدة المسرح العربي"، واستطاعت في أيام نجوميتها أن تكتسب الشهرة وتجني مالا وصل إلى مليون جنيه، ولكنها أنفقته كاملا على صناعة المسرح والسينما، وفي آخر أيامها كانت وحيدة تعيش في غرفة في أحد فنادق القاهرة الشعبية، لم ينقذها سوى خبر صحفي في جريدة الوفد رفض على إثره فريد شوقي أن تكون تلك نهاية واحدة من بانيات مجد السينما والمسرح المصريوالعربي، فوفر لها العلاج على نفقة الدولة والمسكن، الذي لم يمهلها الرحيل أن تهنأ به، فرحلت في 23 يناير 1996.
يقال إن لفاطمة رشدي ابنة اسمها "عزيزة" نتيجة زواجها من عزيز عيد، الذي تزوجت بآخرين بعد الانفصال عنه، فتزوجت من المخرج كمال سليم، والمخرج محمد عبد الواجد، ورجل أعمال صعيدي، وكان ضابط بوليس هو آخر زيجاتها.
لآخر لحظة، كانت فاطمة رشدي يملؤها الشغف تجاه الفن، تحبه محبة مخلص وتشعر بالانتماء له وحده، كانت تحفظ أدوارها في المسرحيات وتفخر بما أنجزته "عشت حياة حافلة بما بها من أحداث وذكريات من فرح غامر وسعادة بالغة وأحيانا يأس قاتل هذه الحياة لو خيرت بينها وبين حياة القصور لفضلت الأولى لأني أحب الفن، ولا زلت أحبه وسأظل أحبه حتى أخر العمر".
أطلق الرئيس السادات في السبعينات على المسرح العائم في منطقة المنيل اسم "فاطمة رشدي" تكريما لمشوارها الفني، كما تم منح اسم أحد شوارع منطثة الهرم اسمها تخليدا لمسيرتها.
الكاتب
هدير حسن
الخميس ٢٨ يناير ٢٠٢١
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا