يوستينا سمير أمل بنات البرشا التي غيرت بمسرح الشارع
الأكثر مشاهدة
"إن مسرح الشارع هو اللي يوصل أم ماريو للتمثيل، وبعدها الفيلم يوصل لمهرجان كان.. حسيت أنه تعويض من ربنا خاصة إننا اتعرضنا لأزمات وضغوط كتير" رغم أن الأمر يبدو إنجازا شخصيا لأم ماريو، السيدة الصعيدية التي اختارها المخرج عمر الزهيري لبطولة فيلمه "ريش" ونال عنه جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان، يعلم أهالي "البرشا" أن الفضل الأول يرجع لمسرح الشارع الذي أسسته يوستينا سمير.
يوستينا سمير
داخل قرية على أطراف مركز ملّوي التابع لمحافظة المنيا في قلب الصعيد، لا يبدو للمواهب متنفس يمكنها أن تنطلق منه، وهو ما أدركته يوستينا مع سنوات إدراكها الأولى "من صغري بحب البرشا لكن مش عاوزة أقعد فيها"، فعلمت أن في قرية البرشا لن يمكنها أن تصنع المستقبل الذي تخطط له، فقلة الإمكانيات ومحدودية الفرص قادرة على أن تدفن أي أمل، لكن كانت الأقدار تخبيء لها مصيرا آخرا، جعل "البرشا" هي منبت الحلم.
"كنت ناوية أتخرج من الجامعة وأنتقل القاهرة واشتغل هناك مترجمة، ومكنتش متخيلة مشواري يكون ليه أي علاقة بالمجتمع المدني" تخرجت يوستينا في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية من جامعة المنيا، وكانت تعلم أن مجال عملها إما بالمنيا أو القاهرة "في البرشا المجالات ضيقة وبرضه مفيش شغل"، ولكنها تراجعت عن خطتها بعد أن ألهمتها أختها الكبرى "تيريزا" بإنشاء جمعية توعي أهالي القرية بمشكلات البنات.
منذ طفولتها أظهرت يوستينا اهتماما بالمسرح، وكانت تشترك في المسرحيات التي تنظمهها مهرجانات الكنيسة، واستمرت حتى استطاعت أن تكون هي نفسها مسئولة عن فرق مسرحية تختار موضوعاتها وتكتبها وتخرجها وتدرب الممثلين لتأديتها، وهي ما زالت تدرس في مرحلة الثانوية العامة، وكانت تشترك بالفرقة المسرحية في مهرجانات مسرحية تابعة للكنيسة على مستوى مركز ملّوي.
مع رغبتها في أن تكون المسرحيات عن موضوعات عامة واجتماعية لا تتعلق بالدين، قررت أن تكوّن فرقة مسرحية بنفسها وتركت مسرح الكنيسة حين كان عمرها 19 عاما، ونظمتها مع مجموعة من البنات في "البرشا"، وبعد التخرج اقترحت عليها شقيقتها الكبرى أن تقوم بافتتاح جمعية تضم نشاطاتهن وتعرض اهتمامات ومشكلات البنات في القرية.
لا يعد سهلا إيجاد مكان يمكن تأجيره كمقر للجمعية، ففي البداية بدأت نشاطاتها من مكان تابع للكنيسة في القرية، وكان اسمها "بنت الملك"، ثم بعد ذلك استطاعت أن تحصل على مكان آخر مستقل في عام 2011، وصار اسم الجمعية مصر للتنمية"، وبدأت بنشاطات عامة عن صحة المسنين، وقضايا محو الأمية، ثم الأطفال اليتامى، ولاحظت أهمية الجمعية مع رغبة بنات كثيرات في الاشتراك بنشاطاتها ليجدن مكانا يعبرن فيه عن المشكلات التي تواجههن.
بسبب طبيعة مجتمع "البرشا"، كان الاختلاط أمر غير وارد وإذا حدث فهو يحمل كثير من التساؤلات وقد يثير الغضب، ولكن مع مرور الوقت وتطور نشاط الجمعية بات من الضروري أن يشترك الأولاد والرجال في النشاطات التي تقوم بها "لقينا أنه في مشكلات كتير عاوزين نعبر عنها ونعمل مبادرات ونتكلم.. عشان كده كان لازم نكبر المجموعة ونضم الشباب".
لم يكن سهلا أن يجتمع الشباب والبنات في مكان واحد، صاروا حديث قريتهم- كما تقول يوستينا- "إحنا كنا حاطين هدف في دماغنا وملناش دعوة بحد، رغم أنه في بنات مشيت من الجمعية بسبب كلام الناس"، واستمرت نشاطات الجمعية بجهود ذاتية من جميع المشتركين، وصارت تقدم دورات وتعليم حرف وبرامج توعوية في الزراعة وإعادة التدوير، وحكي وفنون تشكيلية وافلام وثائقية عن مشكلات مثل: التمييز ضد البنات، والتحرش الجنسي، والختان، والزواج المبكر وهو ما رأت يوستينا أن التعبير عنه من خلال المسرح والعروض سيكون مثاليا.
مسرح الشارع
أحبت يوستينا المسرح منذ طفولتها، فنشأت عليه وتكونت شخصيتها من خلاله وتمكنت من إتقانه على مدار السنوات، لذلك بعد أن أطلقت جمعية مصر للتنمية كان المسرح اختيارها كي تعبر عن المشكلات، وهو أداتها للتغيير وزيادة الوعي "الفن بيغير، ومعظم الناس بتحب المسرح، وإحنا في البلد (قرية البرشا) مفتقدين حاجة ترفيهية تعبر عننا وعن مشاكلنا" فأسست فرقة داخل الجمعية، ثم درست لمدة عام في مسرح الجيزويت في المنيا، حتى تتعلم كل المهارات وتنقلها للبنات والشباب، إلى جانب فعاليات التوعية الأخرى مثل الندوات والرسم في الشارع والأفلام الوثائقية عن مشكلات القرية.
"كنّا في الأول بنعمل المسرحيات في مكان محدد، لكن بعدها حسينا أننا مش بنتحرك من مكاننا ومش عارفين نوصّل رأينا لكل الناس في القرية"، ولذلك قررت يوستينا مع بنات وشباب الجمعية الاتجاه إلى مسرح الشارع الذي أطلقوا عليه اسم "بانوراما برشا" في عام 2014.
بالتأكيد، كان القلق والخوف هو السائد، ولكن فضل الجميع أن يخوض التجربة ويحكم من رد الفعل، ثم أتت أول مسرحية لبانوراما برشا تحت اسم "محكمة القرية" التي يحاكم فيها الأشخاص قريتهم على الحال السيء الذي وصلوا إليه، ويطالبوا القرية أن تتوقف عن نقدهم، فتحاكم الفتاة القرية على تزويجها مبكرا وترفض أن تحاكمها القرية بسبب عدم قدرتها على تربية أبنائها، وهكذا قياسا على المشكلات الأخرى.
"المسرحية كانت صادمة جدا، ولما الناس شافوها مصدقوش أن في مشكلات زي دي في القرية، وفي منهم اللي اعتبر أننا مش محترمين، وبنحرض البنات على المعصية" تتذكر يوستينا كيف انقلب عليهم أهل "البرشا" ورفضوا أن يقوموا بأية عروض أخرى في الشارع، ومنعن يناتهن من المشاركة في المسرح وأنشطة الجمعية، ولكن هذا لم يوقفها.
وجاء العرض الثاني وهو "الفرح"، وهو الذي يجسد فرح لفتاة تتزوج قبل السن القانوني في أحد شوارع القرية وكأنه حقيقي، ويُظهر كيف تحدث البنت التي يتم تزويجها نفسها؟ تجلس في "الكوشة" وتسمع كلام المعازيم والحضور الناقدة والتي لا تأتي محبة أو داعمة، فكان العرض مؤثرا، صارت بعده الأمهات في القرية تُحدث نفسها إن كان هذا ما تريده لبناتها أم لا.
رغم أن عرض مسرحية الفرح في الشارع واجه اعتراضات وانتقادات، تم عرضه أكثر من 30 مرة وكان فرصة لتقوم أمهات وآباء بتأنيب أنفسهم على قرار تزويج بناتهم قبل السن القانوني، وكان المشاركون الذين يعبرون عن امتعاضهم في أثناء العرض يتم إشراكهم به "في مرة وإحنا بنعرض في ست قالت لنا إيه قلة الأدب دي، فاقترحنا عليها تقعد مكان البنت وكأنها العروسة، وتقولنا إحساسها ففهمت اللي بنتكلم عنه واتنقلها شعور البنات".
فكرة إقامة عروض المسرح في الشارع واجهت اعتراضات مختلفة، وصعوبات في التعامل مع تقبل أهالي قرية البرشا للفكرة، وكذلك التعامل مع اختلاف وجهات النظر، ولكنه قدر ما أثاره من جدل قدر ما استطاع أن يغير في كثير من الأفكار السائدة، خاصة، المتعلقة بالبنات، فعرض "الفرح" استطاع أن ينال شهرة كبيرة وصلت إلى عرضه في تونس.
حلم يوستينا
انتشرت فيديوهات عن عروض مسرح الشارع، شجعت المخرج المصري عمر الزهيري أن يختار بطلة فيلمه "ريش" من قرية البرشا في ملّوي، وبالفعل تواصل مع يوستينا واختار من خلال عروض مسرح الشارع "أم ماريو"، التي أتقنت الدور وذاع صيتها بعد أن حاز الفيلم على جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان، وهو ما جعل يوستينا توقن أن ما تقوم به من أجل "البرشا" وبناتها سيُجني ثماره يوما ما.
مرت يوستينا مع حلمها في البرشا، بمراحل بدأت من الرغبة في ترك القرية والسفر إلى القاهرة وحتى البقاء ومحاولة عيش الحلم وفق الإمكانيات المتاحة "كنت بقول لو قعدت في البرشا هتجوز وأخلف وده مش حلمي.. لكن لما لقيت إني ممكن أستنى واتعامل بلهجتي وفي بيئتي وأعمل حاجة تغير المكان وحياة البنات، قولت فرصة همل كمان يلاقوا مكان يعبر عنهم"، فجمعية يوستينا ونشاطاتها كانت متنفسا لفتيات البرشا ومكانا يعبرن من خلاله بالحكي والرسم والفنون المختلفة عن أحلامهن.
"أوقات بقول لو كنت مشيت من البرشا كانوا البنات هيحلموا ويحققوا حلمهم إزاي" صارت يوستينا في قريتها مبعث الأمل للبنات، تعلم أن هناك ممن لا يحبذون ما تقوم به، بينما آخرون كثيرون باتوا يدركون أهميته، يخبرونها دوما "أنتي بنت بمية راجل"، "أنتي غيرتي البلد"، "ياريت بناتنا يكونوا زيك"، بعد أن تمكنت من تحدي مجتمع كامل لأنها تؤمن بالتغيير.
تجتهد يوستينا من أجل أن تنمي من مواهب البنات في القرية، فتشجعهم على حضور دورات تدريبية أو تتعلم هي عن مجالات مختلفة وتخضع للتدريب في القاهرة ثم تنقل معرفتها لهن، ويسعدها دوما أن تسمع فتاة تحلم أن تصبح راقصة باليه "ودي كانت حاجة استحالة تحصل"، أو ترى البنات على المسرح يؤدين أدوارهن بثقة وجرأة، وتحلم أن تؤسس مدرسة شاملة لكل الفنون، وأن يكون مسرح "بانوراما برشا" في كل قرية في مصر، ونوفر الفرص للمواهب المدفونة في البرشا وغيرها.
الكاتب
هدير حسن
الأحد ٢٤ أكتوبر ٢٠٢١
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا