تسليع النساء في الرياضة.. تمييز آخر يعوق نجاحاتهن
الأكثر مشاهدة
كانت دورة الألعاب الأولمبية طوكيو 2020، التي أقيمت في اليابان في الفترة من 23 يوليو وحتى 8 أغسطس 2021، فرصة لكسر الصمت حول المحاولات المستمرة لإضفاء الطابع الجنسي على مشاركات النساء الرياضية، فيما يبدو أنه تسليع للمرأة في مجال الرياضة، واستغلال مشاركتها بعيدا عن الهدف الأساسي ليحقق مشاهادت عالية ومكاسب مادية.
في رحلة البحث عن أشكال تسليع أو تعمّد جعل المرأة شيئا في الأحداث الرياضية، كان يوتيوب هو أحد منصات البحث التي اعتمدت عليها، ومع بدء تفقد نتائج البحث التي كانت باستخدام جملة "تسليع النساء في الرياضة" اكتشفت أنه ضم في النتائج الأولى فيديوهات أتت تحت عنوان "أغرب المواقف في الرياضة" أو "10 مواقف مضحكة ومحرجة في لعبة التنس" على سبيل المثال.
في المشاهد الأولى في هذه الفيديوهات، التي تتعمد وضع مشاهد محرجة تخص النساء حتى وإن لم تكن ضمن قائمة المواقف نفسها، كانت هناك لاعبات في رياضات مختلفة تتسبب طبيعة الرياضة في ظهور أجزاء من أجسامهن رغما عنهن، فمن الممكن أن يرتفع الزي الخاص بلاعبة التنس بسبب الرياح وتنكشف ملابسها الداخلية، أو تتداخل ملابس لاعبات القفز والركض.
تبدو هذه المشاهد وغيرها تلقائية، ولكن عرضها في افتتاحية الفيديو دون أن تكون ضمن القائمة يعطي انطباعا أن استخدامها جاء لجذب الانتباه لأمر بعينه، خاصة مع وجود الأسهم التي تشير إلى مؤخرات اللاعبات، وملاحظة أن عدد مرات مشاهدة أحد هذه الفيديوهات تخطى الـ 7 مليون مشاهدة.
استغلال النساء
**الصورة من حملة الناشطة الأمريكية وعارضة الأزياء راين دوف لإظهار التمييز وتعمد استخام ملابس كاشفة للنساء
فكرة التسليع أو استخدام المرأة كشيء تعود إلى عقود ماضية، عندما يتم تعمّد أن تظهر في الإعلانات التي تخص بعض السلع بصورة مغرية جنسيا، ويعتبر تمييزا ضد النساء كونه يعاملهن كأشياء مثل هذه السلع، والهدف من ظهورهن في الإعلانات أو الأحداث الاحتفالية الكبيرة هو إما للحث على المشاهدة أو لتحقيق نسب مبيعات وأرباح، في ترسيخ واضح للنظرة الذكورية لأدوار النساء والرجال في المجتمع.
التسليع للمرأة- كما أوضحنا في موضوع سابق- يضع النساء في إطارات تجبرهن على أن يلبين معايير تم تحديدها للجمال متعلقة بالوزن المثالي والجسد النحيل الخالي من العيوب، وكذلك لون البشرة الأفضل، وهو ما يثقلهن بعبء الوصول لتحقيق هذه المعايير، ويرسخ في أذهانهن فكرة أن وجودهن مرتبط بتلبية رغبات الرجال ونظرة المجتمع الذكورية، ويخضعهن لكثير من أنواع العنف النفسي والبدني، ويصيبهن بالاكتئاب والقلق.
تشيئ المرأة في الرياضة
بداية من كاميرا الملعب التي تركز على وجوه الفتيات والسيدات الجميلات، وتغزل المعلقين بملامحهن، وحتى فرق المشجعات في دوريات الألعاب الرياضية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك مباريات المصارعة النسائية، إلى اللاعبات أنفسهن في الرياضات المختلفة وإجبارهن على ارتداء ملابس ضيقة أو كاشفة، تتحول الرياضة النسائية من ممارسة بدنية ومنافسة محتدمة بين الفرق والدول إلى عرض يستغل النساء ويكرّس للذكورية.
من الممكن أن يكون الأمر مختلفا في البلاد العربية، التي تتسم بطابع محافظ، وتعاني فيها النساء من الحد من حريتهن لممارسة أي رياضة، بسبب احتكار الرياضات على الرجال وممارسة التنمر على النساء الرياضيات، فضمن استعدادات منتخب مصر لكرة القدم النسائية تحت 20 عاما، تم لعب مباراة ودية مع منتخب لبنان في ديسمبر 2020، واستطعن الفتيات الفوز بثلاثة أهداف.
اعقب ظهورهن سيل من التعليقات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت تنال منهن بصورة سلبية، إما تنتقد ظهورهن باعتبارها لعبة ذكورية وأن "مكنهم المطبخ" ولا يمكن لهن ممارسة كرة القدم، أو الإشارة إلى أجسادهن ومقارنتها بلاعبات لبنان الأكثر جمالا من وجهة نظرهم- وكأن هذا هو المعيار- لتخرج المباراة من إطارها الحقيقي كمنافسة رياضية إلى ضرورة تحقيقها متعة للمشاهدين.
نالت الفتيات دعما- حينها- من المجلس القومي للمرأة وعدد من الفنانين واللاعبين المشهورين مثل شيكابالا، وتم انتقاد التعليقات الساخرة التي تنتقص من حضور الفتيات في حدث رياضي وقدرتهن على المنافسة، ولكنه فتح الباب أمام الحديث عن أن اختيار المرأة للعبة الرياضية التي تفضلها يقع ضمن تحيزات فكرية ومظهر يلبي رغبة المجتمع. كم مرة علمنا أن الأسرة قد ترفض أن تلعب البنت رياضة تحتاج إلى مظهر بدني قوي ومنافسة شديدة! وتفضّل أن تمارس البنات رياضة لها طابع أنثوي- كما هو شائع- مثل الجمباز أو الباليه المائي.
بعيدا عن صراعات فجوة الأجور الضخمة بين الرجال والنساء في الرياضات المختلفة، في تمييز واضح بين الجنسين، تعاني الفتيات والنساء من صراع آخر يشعرن معه بأنه يتم استغلالهن، بعد أن صار التعامل مع الرياضة على أنها بيزنس يجب الترويج له، فانتقل فكر الإعلانات والدعاية إلى أجساد اللاعبات.
أتت دورة الألعب الأولمبية طوكيو 2020 بعد الحكم على لاري نصار، وهو الطبيب السابق بمنتخب الولايات المتحدة الأمريكية للجمباز، بالسجن لمدة 176 عاما بعد ثبوت قيامه بالاعتداء الجنسي والتحرش بأكثر من 140 لاعبة من بينهن لاعبات مشهورات، لم يتمكن من البوح من قبل، على مدار سنوات طويلة مما أدى لانتحار فاة بعمر 23 عاما في 2009، وترك عشرات منهن باضطراب ما بعد الصدمة.
وحملت هذه الدورة الأولمبية، التي أقيمت في الفترة من يوليو 2021 إلى أغسطس 2021، آمال كل الفرق بالفوز، وكذلك رغبة كثيرات في تغيير النمط والقالب الذي يتم إجبارهن عليه، فقررت لاعبات المتخب الألماني للجمباز أن يرتدين سراويل طويلة بدلا من الزي الذي يشبه لباس السباحة البيكيني، ويكشف عن أجسادهن دون مبرر، في حين يرتدي الرجال ملابس مريحة، ولكن بدا أن الامر ليس سهل التنفيذ على الإطلاق.
مع رفض لاعبات فريق النرويج لكرة اليد الشاطئية للسيدات ارتداء البيكيني، خلال البطولة الأوروبية، واستبدالها بسراويل (شورتات) قصيرة، لأن البيكيني لا يشعرهن بالراحة ويجعل الأمر صعبا خلال أيام الدورة الشهرية، قام الاتحاد الأوروبي لكرة اليد بتغريم الفريق 1295 جنيه إسترليني على اعتبار أنه خالف القوعد المتعلقة بالملابس، وبسبب هذا القرار تلقى لفريق دعما من مشاهير ومطربين عالميين عرضوا دفع الغرامة، وعبرت إحدى اللاعبات لشبكة بي بي سي عن سعادتها بهذه الخطوة، وقال "سنواصل القتال حتى تغيير قواعد الملابس، ونتمكن اللاعبات من اللعب بالملابس التي يريدونها".
أظهرت دراسات متعددة من أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، كيف يمكن أن يؤثر التمييز بين الجنسين على رغبة الفتيات في ممارسة الرياضة، بداية من الاهتمام الإعلامي المنعدم وحتى إضفاء الطابع الجنسي على الرياضات النسائية، فأظهرت دراسة لمركز تامر للأبحاث بجامعة مينيسوتا أن 40% من جميع الرياضيين في الولايات المتحدة من الإناث، بينما لا يحصلن سوى على 4% فقط من التغطية الإعلامية الرياضية.
وكانت هذه التغطية الإعلامية، كما أوضحت الدكتورة سينثيا فريسبي الباحثة في جامعة ميسوري، تركز على أجساد اللاعبات وسلوكياتهن، وكانت الباحثة قد رصدت الفترة ما بين دورة الاعاب الأولمبية 2012 وحتى 2016، ورات أن الاعتداءات ضد الرياضيات زادت بنسبة 40%، وأشارت إلى طلب معلق من لاعبة التنس الكندية أوجيني بوشار أن تستدير لتظهر للجمهور الملابس التي ترتديها، وكانت قد تمكنت لتوها من الفوز على غريمتها في بطولة أستراليا المفتوحة عام 2015، وقالت حينها إنه يمكنها أن تفعل ما طلب، إذا كانت وسائل الإعلام تفعل المثل مع الرجال وتطلب منهم استعراض عضلاتهم.
وتمت ملاحظة كيف تربط التعليقات على الرياضة كلمة "مثير" بالفرق النسائية، في حين من الفترض استعمال كلمات مثل "مناسب" أو "قوي"، كما يهتم أغلب المتابعين بضرورة أن تبدو اللاعبات في مظهر جيد- في إغفال واضح لتقدير الأداء- والتركيز على تصفيف الشعر ووضع المكياج.
وتروي لاعبة كرة الطائرة الكندية ليندساي كليوسكينز كيف أوضح لها الحديث عن ممارسة الفتيات للرياضة مع زميلها ، أنه يراها غير مناسبة لابنته "هذه رياضة لن أشرك ابنتي بها، بسبب السراويل القصيرة التي ترتدونها"، وأزعجها أنه من الممكن أن يحرم ابنته من الفرصة بسبب الزي، في إشارة إلى أن كثيرين يرون الرياضة النسائية من خلال اجساد اللاعبات وما يلبسونه، لا القدرات الفنية وإمكانية المنافسة.
وغصبت كلبوسكينز من ممارسات أخرى رأتها وسمعت بها مع فتيات اخريات في رياضات مختلفة، وكيف تم إجبار الفتيات الأمريكيات في دوري البيسبول عام 1943 بارتداء الجيبات- حسبما تقول- رغم أنها غير مريحة جعلت ممارسة اللعبة أكثر صعوبة عليهن، معتبرة أن هناك مقاييس مختلفة للتعامل مع الرياضة النسائية "لا حرج في أن تكون جميلا، ولكن عندما يتعلق الأمر بالرياضة فالإنجازات الرياضية هي الأهم وقبل كل شيء".
وعلى صعيد آخر، تم التشكيك في هوية حارسة مرمى المنتخب الإيراني اللاعية زهراء كودائي، بعد مشاركتها في مباراة جمعت منتخبي إيران والأردن ضمن تصفيات كأس أمم آسيا، وكان أدؤاها لافتا في صد ركلات الترديح مما ساهم في فوز المنتخب الإيراني، وبعد مطالبات بالكشف عن هويتها تم التأكد من كونها أنثى، ليشير ذلك إلى ضرورة تلاقي مظهر اللاعبات لتوقعات المجتمع ونظرته الذكورية للمرأة باعتبارها جسد له قوام ممشوق ووجه منمنم.
استمرار النهج الذي يتعامل مع الرياضيات كسلع وأشياء، يغفل دورهن ومساهماتهن الرياضية ويركز على المظهر، من الممكن أن يؤدي إلى : عزوف الفتيات عن ممارسة الرياضات باختلافها وتسرب اللاعبات الحاليات، أن يسبب تعمد الكاميرات التقاط صور لهن تركز على الملابس الداخلية أو تضفي الطابع الجنسي على حضورهن الإحراج والقلق المستمر من السخرية والشعور بالخزي، أن تتسبب الملابس التي لا تناسبهن في تسرب الدم أثناء الدورة الشهرية أو ظهور منتجات الحماية في الذعر المستمر للاعبات وعدم الراحة، استبعاد اللاعبات من خلفيات ثقافية أو دينية محافظة، ترسيخ الصورة النمطية عن النساء، الضغط على النساء من أجل الظهور بالصورة المثالية المتخيلة عنهن، كسيدات منزوعات شعر الجسم ومصففات الشعر.
قيادة نسائية
إذا عدنا إلى أصل استمرار هذه الممارسات التمييزية ضد النساء في الرياضة، رغم قدرة لاعبات كرة السلة والجودو على الحصول على حق اللعب بوي يغطي الجسم وشعر الرأس، وفي رياضات أخرى مختلفة، نجد أن المناصب القيادية للاتحادات الرياضية الدولية ما زالت مقتصرة على الرجال، وتحديدا الرجل الأبيض، ما يساهم في ترسيخ الممارسات العنصرية التمييوية أو على أقل تقدير يغفل الاختلاف والتنوع.
وما تحتاجه الرياضة النسائية الآن، هو ضرورة وجود نساء بنسب أكبر في المناصب القيادية لهذه الاتحادات، مع العمل على تعديل القواعد الخاصة بالأزياء الرياضية الموحدة بما يتناسب مع التنوع الثقافي والديني والعرقي وما يحقق لهن الراحة في الملاعب، مع إعادة تأهيل المذيعين للتوقف عن تعليقاتهم التمييزية، وتوجيه السوق الرياضي ليحقق الربح بعيدا عن أجساد النساء.
المصادر:
الكاتب
هدير حسن
الإثنين ٢٧ ديسمبر ٢٠٢١
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا