حدوتة مُصوَرة .. ”نانسي” في بلاد السلام
الأكثر مشاهدة

صورتان الفارق الزمني بينهما 30 يومًا، الأولى بشعرها البني المندسل وبسمة تميزها في العادة لكنها اقترنت وقتها بشيء من الترقب التقطت أثناء مغادرتها مصر، والثانية وهي في طريق العودة من غانا وقد عقدت خصلات شعرها في ضفائر أفريقية صغيرة وطبعت الشمس بصمتها على البشرة وتُوج محياها بابتسامة مشرقة وعيون تلمع بشغف معبرة عن ما رأت من حكايات وحكايات بين أصحاب البسمات البرّاقة والوجوه السمراء.
بطاقات السفر سعت لها
لم تكن رحلة نانسي فارس إلى غانا كغيرها من الرحلات، فلم تدرس خيارات السفر وتبحث في الدروب والطرق المختلفة وتدخر جزءًا من الراتب للقيام بالرحلة التي تود، كل ما كان بحوزتها رغبة في السفر والتجربة، لتلعب الصدفة دور البطولة في تلك المغامرة الأفريقية.
كانت تتصفح فيسبوك ككل يوم، إعجاب هنا وتعليق هناك، حتى ظهر أمامها "إيفنت" نظمته صفحة Have A Dream، عن رحلة إلى غانا بهدف التطوع مدتها شهر، لم تكن تحمل أي معلومات عن البلد السمراء غير تلك المستمدة من كرة القدم، لكنها قررت بسرعة أن تستخرج جواز السفر وتقرأ عن "بلاد الذهب" وتحضّر نفسها للمقابلة المطلوبة، وتقول عن ذلك "الموضوع كان صدفة بشكل غريب، بس أنا بحب أفريقيا، وبحب البلاد اللي فيها حياة أكتر من البلاستيك ! يعنى أسافر غانا واتبهدل أحسن ما أروح أوروبا مثلًا."
قلق الأهل ظل حاضرًا أثناء التحضيرات التي أعلنت عنها في اللحظة الأخيرة، لكنها تغلبت على ذلك من خلال المعلومات التي وفرها المنظمون للرحلة وأرقام التليفونات والمؤسسات التي يتبعونها، "كانوا كاتبين تفاصيل تخليكي واثقة فيهم يعني".
المحطة 1: حب من الخطوة الأولى
مدينة ساحلية اسمها "فولتا"، تيمنًا باسم بحيرتها الكبرى، يفصلها عن "أكرا" العاصمة 3 ساعات بالسيارة ، وقعت نانسي في حبها من اللحظة الأولى، فشعرت الشابة، التي تقضي حياتها بين زحام القاهرة الخانق وجوها الرمادي، أنها في حلم لا تود الاستيقاظ منه ولم تصدق أن هناك مكان واحد يحوي هذا القدر من الجمال والمساحات الخضراء وأنها ستفتح عيونها يوميًا على هذه الجبال التي تداعبها السحب وتلك المشاهد التي تخلب العقل.. "كل حاجة كانت مريحة ومختلفة".
المحطة 2: "ألفريد" صاحب الأيادي
ذهبت نانسي والمجموعة المصاحبة لها لبيت مُضيفهم وما إن دلفوا الأبواب حتى جرى عليهم ابن صحاب البيت "داستن" الصغير مُرحبًا، أما الأب فهو "ألفريد" الذي يسكن بيت طيني ككل السكان المحليين، وله 7 أبناء بالتبني –غير داستن ابنه الشرعي- يقوم على دراستهم ويذهبون لذويهم في الأجازات، ويضع بيته وهؤلاء الصغار في خدمة المتطوعين ذوي الأجناس المتعددة.
فأدركت حينها من تعاملهم المنبسط والودود وترحيبهم غير المحدود، صغارًا قبل الكبار، ما ستنطوي عليه الأيام القادمة من طمأنينة وراحة متبادلة.."فكرة أنه عنده بيت بيخدم فيه المتطوعين ومتبني أولاد كتير وهو مش غني كانت مبهرة بالنسبالي".
المحطة 3: فطرة المحبة
مشاعر الترقب كانت مسيطرة عليها في الليلة الأولى بغانا، ماذا ستقدم غدًا لأطفال المدرسة غير النظامية ذات الفصول الأربعة، لكن الأطفال ذوي الأعمار المتفاوتة فاجأوها بالترحاب الشديد ومحاولتهم فك الثلج بتعليمهم للمتطوعين ألعابهم البسيطة، وظلت مجموعة من التلاميذ تلح عليها أن تدرس لهم.
ومن اللحظات التي لا تُنسى حين منحتها إحدى الصغار مصروفها الذي يساوي 20 قرشًا، تذكارًا منها لتبقى بذاكرة معلمتها التي أتت من بلاد بعيدة ما حيت، ليمن القدر على نانسي بفرصة التلاقي مع أجساد صغيرة ذات أرواح منحها الله المتسع والحكمة.
"كنت رايحة وفاكرة إني هخدمهم بقى وهطبطب .. لاقيتهم هما اللى بيرحبوا وبيدوني كل حاجة وبيلاعبوني"
المحطة 4: مواجهة الخوف فوق الجسور المُعلّقة
خصصت أيام الأجازات الأسبوعية إلى الرحلات الاستكشافية للبلاد الخضراء، ونانسي بطبيعتها "بتخاف جدًا" لكن في تلك الرحلة استطاعت أن تكتشف نفسها وتختبرها، إحدى مغامراتها كانت بحديقة "كاكوم" الوطنية وهي عبارة عن جزء من الغابات التي تعيش بها حيوانات في بيئتها الطبيعية "حديقة حيوان مفتوحة"، ورغم صعوبة التعامل مع القردة كانت التجربة الأصعب هي الجسور المعلقة. ثمانية جسور خشبية بطول ٣٥٠ مترًا، وعلى ارتفاع ٤٠ مترًا، مربوطة بين الأشجار وغير مسموح بالنزول في منتصف الرحلة فلا سبيل للعودة سوى الإكمال. قررت نانسي خوض التجربة وواجهت "نوبة هلع" في منتصف أحد الجسور مع اشتداد اهتزازه من وقع أقدام الآخرين، لكنها " بس بعد كده قررت أكسر ده عشان أعيش المغامرة ..وخلصتهم وأخدت شهادة إني خلصت الـ8 جسور."
المحطة 5: التعايش
صدمة تبادل الحكايات كانت السمة الغالبة على التجمع الليلي بين المتطوعين، كانوا مصريين، أسباني، إنجليزي، كندي وفتاة من لاتفيا، كلهم في استضافة غانيين. لم يعرفوا جميعًا عن مصر الكثير، تلخصت علاقة الغانيين بمصر في "أبو تريكة" وكرة القدم، وكانت البقية مصدومة مثًلا من وجود مصريين مسيحيين كنانسي التي تعلمت هناك كيف يفكر الناس من بيئات مختلفة، وجعلتها التجربة تضع عينها على سفر التطوع التي قالت أنها ستختاره دائمًا لأنه يجعلك تعيش كأهل البلد. "بيضيف لروحك وبأمانة مش كلام إنشا.. إنتي بتنسي كل حاجة وإنتي بتساعدي حد تاني
وبتتعلمي منهم جدًا.. كمان فرصة إنك تقابلي جنسيات تانية وتتعايشي معاهم وتتعلمي".
جعبة نانسي محملة بالكثير عن غانا المبهجة المفعمة بالطاقة فتستطيع أن تلمس البهجة والشغف والحب وهم يتسربون من بين كلماتها عن الرحلة للبلد التي يمكن أن يتكون نسيج العائلة الواحدة بها من ديانات متعددة وكلٍ يمارس حقه في العبادة، ويحاكم بها المتهم بجريمة القتل في محاكمة شعبية وسط العاصمة ومن يرغب فى المشاهدة يدفع تذكرة تساوى ٢٠٠ جنيه مصري، فتلك حادثة نادرة، لا يتثنى للغانيين رؤيتها على مدار حياتهم كلها أحيانًا. كل ذلك جعلها "أرض السلام" بلا منازع.. ولا يسعك وأنت تسمع منها عن البلاد السمراء سوى أن تحزم حقيبتك وتنتظر الفرصة.
الكاتب
ندى بديوي
الأحد ٢٥ سبتمبر ٢٠١٦
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا