رضوى عاشور متمردة هادئة بقلم صادق مهموم بالإنسانية
الأكثر مشاهدة
لم تختلف عليها قلوب المحبين، ورغم شاعرية ذلك وصعوبة حدوثه، رضوى عاشور لم تجتهد في السعي له، هي فقط أرادت دوما أن تكون نفسها وتعبر عن ما تؤمن به، صدقت وآمنت، فصدقها وآمن بها كثيرون، واعتبروها منارة فكرية، فكانت نور وقبس من أمل لأجيال كاملة رأت في كلمات الأديبة والناقدة والروائية والمترجمة وأستاذة الجامعة أبلغ تعبير عن أفكارهم ومشاعرهم المعقدة وأحلامهم غير المتحققة.
من هي رضوى عاشور
كيف يمكن أن توجز سنوات طويلة في بضع كلمات، أن تشيد بمواقف راسخة واجهت بها تعقيدات حياتها، وأن تخلد لاسمها المحفور في وجدان المحبين وذاكرة التاريخ الأدبي والنضالي كذلك، لكننا نفعل ما يتوجب علينا. ولدت رضوى عاشور في 26 مايو 1946، والدها المحامي مصطفى عاشور المحب للأدب والقراءة، ووالدتها الشاعرة والفنانة مي عزام، وجدها عبد الوهاب عزام المفكر والمترجم والشاعر والسياسي.
"أنا ابنة واقع قاسي.. فطفولتي كانت مطلة على كوبري عباس الذي شهد إجهاد تحرك الطلاب" جاءت ولادتها بعد أشهر قليلة من حادثة كوبري عباس، الذي كان يطل عليه المنزل الذي ولدت فيه بحي المنيل، لتقترن ولادتها بما ظلت تدافع عنه، وهو حق الشعوب في تقرير مصيرها، فالحادثة التي قامت قوات الأمن فيها بفتح الكوبري على تجمع من شباب وطلاب المدارس والجامعات الرافضين للاستعمار البريطاني مطالبين بالجلاء التام، نتج عنها مقتل وجرح أكثر من 200 شخص تمردوا وقالوا "لا".
درست رضوى عاشور خلال مراحل التعليم الأساسية بالمدارس الفرنسية، وكانت القراءة هي رفيقها وونيسها وشغوفة بها على الدوام، كونها الأمر الذي اعتادت أن ترى الجميع يقومون به في طفولتها من الجد إلى الأب والأم، فكانت تلتهم كل ما يقع تحت يديها بداية من مجلات الأطفال العربية والفرنسية، وحتى روايات تشارلز ديكنز المترجمة وكذلك نجيب محفوظ ويوسف السباعي، لتكون القراءة هي طاقتها للكتابة فيما بعد.
اللغة الإنجليزية كانت اختيارها للدراسة في الجامعة، فالتحقت بكلية الآداب جامعة القاهرة، وسعت بعد انتهاء دراستها أن تٌكمل رسالة الماجيستير في الأدب المقارن بدراسة نقدية حملت عنوان "جبران وبليك" عام 1972، وكانت تلك الفترة يتخللها محاولات للكتابة من الشعر والقصص القصيرة، رغم معرفتها بأن هذه الكتابات "رديئة"- على حد وصفها- لكن لمتتمكن من وقف رغبتها الجامحة في التعبير بالكتابة، حتى قرأت لأنطون تشيخوف، الكاتب الروسي، فقررت أن تتوقف عن تجارب الكتابة.
استكملت رضوى عاشور مشوارها الأكاديمي، وحصلت على درجة الدكتوراة برسالة حول الأدب الإفريقي الأمريكي من جامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1975. بعد أن أنهت مسيرتها المهنية، شعرت رضوى أن عليها أن تواجه إلحاح الكتابة الذي لم يتوقف يوما، وعليها أن تتعامل مع الأمر بجدية، خاصة بعد أن تفرغت للقيام بها.
التحقت رضوى عاشور بالسلك الأكاديمي، فكانت أستاذة للغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة عين شمس عام 1986، وخلال الأعوام من 1990 وحتى 1993، كانت رئيسة لقسم اللغة الإنجليزية وآدابها بنفس الجامعة، وظلت ما يقرب من 40 عاما تعمل في مهنة التدريس منذ كان عمرها 21 عاما، تشرف على الرسائل الأكاديمية والأبحاث وتعلم الطلاب الذين تعلقوا بها، فطُبع اسمها على أحد مدرجات الكلية.
"ألست مدرسة، أليسوا طلابا؟ أليست مهمتي في الحياة رعايتهم وحمايتهم؟".. كتاب أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية
وبعيدا عن حياة مهنية حافلة بالكد والاجتهاد والسعي، كان لدى رضوى عاشور دوما صوت متمرد، رغم ابتسامتها الطيبة وصوتها الهاديء، كانت قادرة على أن ترفض وتمتعض وتتمرد، دون جلبة ولكن بإصرار وإيمان حقيقين، فتعددت النشاطات التي حاولت من خلالها أن تعبر عن رأيها وتسعى لأن يكون العالم أفضل.
كانت عضوة في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، واللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية في الجامعات المصرية (نتيجة إيمان حقيقي بالقضية الفلسطينية كمصرية وأم لطفل فلسطيني)، ومجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعات، التي كان تهدف للتصدي لأي تدخل من قبل الدولة في الحياة الأكاديمية بالجامعات المصرية وسعت لنزع ثوب السياسة الإجبارية عنها وأن يكون للجامعات تيار واحد لا تنوع ثقافي واجتماعي. وانضمت رضوى عاشور كذك لعدد من اللجان التحكيمية، فكانت عضو لجنة جائزة الدولة التشجيعية، ولجنتي التفرغ والقصة بالمجلس الأعلى للثقافة، وبالطبع كان لها مشاركاتها في كثير من المؤتمرات الأكاديمية الثقافية والسياسية كذلك في مختلف دول وعواصم العالم.
كتب رضوى عاشور
من بداياتها مع الشعر والقصص القصيرة، وكذلك الكتابات الأكاديمية الترجمات، وحتى كتابة الراوية والسيرة الذاتية، كانت قصة رضوى عاشور مع ما تكتب هي مفتاح شخصيتها، وهديتها لمحبيها، ويعرفون أجما ما كتبت، وينتظرون بشغف ما ستنتجه حتى وإن طالت السنوات، يعيشون على ذكرى "غرناطة" و"الطنطورية"، ويحفظون اقتباساتها عن ظهر قلب، يعتبرونها ونيسهم في أيام التشتت والفقدان، والجدة التي تقص عليهم وقائع التاريخ في حكايات إنسانية بدفء وحب.
أول مؤلفاتها النقدية، بعد طرحها لرسالة الدكتوراة، كان "الطريقة إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني" عام 1977، كما أصدرت عن دار ابن رشد في عام 1980 "التابع ينهض: الرواية في غرب إفريقيا"، وعن المركز الثقافي العربي "في النقد التطبيقي: صياد الذاكرة" عام 2001، واشتركت عام 2004 في كتاب "ذاكرة للمستقبل: موسوعة الكاتبة العربية"، كما أصدرت عن دار الشروق عام 2009 "الحداثة الممكنة: الشدياق والساق على الساق: الرواية اللأولى في الأدب العربي الحديث"، وصدر لها بعد وفاتها "لكل المقهورين أجنحة: الأستاذة رضوى تتكلم" في 2019، وهو يضم مجموعة من مقالات لم تنشر لها عن الرواية واللغة والأدب.
لا تخلو أعمال رضوى عاشور من تجاربها الذاتية والقضايا التي آمنت بها، وبدأت أعمالها الإبداعية مع رواية "حجر دافيء" الصادرة عن دار المستقبل عام 1985، التي تحكي عن أسرة كبيرة جسدت من خلالها واقع المجتمع المصري، الذي عانى الغربة، وعاش أبناؤه الحلم فتناولت الحركات الطلابية المعارضة في السبعينات وما تعرضت له.
تلتها رواية خديجة وسوسن، الصادرة عن دار الهلال عام 1987، ثم أتبعتها بالمجموعة القصصية "رأيت النخل" ، فرواية "سراج" عام 1992، التي جمعت فيها بين الخيال وأحداث الواقع لتشير إلى تأثير الظلم وطغيان الحكام على حياة الشعوب وتعرض سعيهم للتحرر.
وفي عام 1994، بدأت رضوى عاشور في نشر ثلاثيتها الروائية الأعظم "ثلاثية غرناطة"، التي أنهتها في عام 2003، والتي تعتبر من أفضل أعمالها الأدبية، فتحكي فيها عن سقوط الأندلس وتاثيراته على المجتمع، وتجمع الشخصيات من الأحفاد إلى الأجداد في خيوط متشابكة، وتلم بتفاصيل المكان وطبيعة الزمان، ليشعر معها القاريء أنه هناك حيث انتهت الأسطورة وبدأت حقبة جديدة من التاريخ، يرى وبلات التهجير والفراق.
وفي عام 1999، نشروت رواية "أطياف"، ثم نصوصها القصصية "تقارير السيدة راء" عام 2001 عن دار الشروق، و"قطعة من أوروبا" عام 2003، ورواية "فرج" عام 2008، وآخرها "الطنطورية" عام 2010 التي جسدت من خلال بطلتها تسلسل القضية الفلسطينية، بداية من التهجير وحتى الشتات والتقسيم.
أما على مستوى الأعمال المتعلقة بالسيرة الذاتية، فكتبت رضوى عاشور "الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا" عام 1983، عن رحلتها غلى الولايات المتحدة الأمريكية، ونشرت "أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية" عن دار الشروق عام 2013، وصدر بعد وفاتها "الصرخة (مقاطع من السيرة الذاتية)" عام 2015.
نالت رضوى عاشور عن اعمالها الأدبية والنقدية عدد كبير من الجوائز، فحازت عن الجزء الأول من ثلاثية غرناطة على جائزة أفضل كتاب في يناير 1995 من معرض القاهرة الدولي للكتاب، وعن نفس العمل تم منحها الجائزة الأولى من المعرض الأول لكتاب المرأة العربية، ومن اليونان حصلت على جائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب في أكتوبر 2007، وجائزة تركوينيا كاراداريللي في النقد الأدبي من إيطاليا عام 2009، وعن الترجمة الإيطالية لرواية أطياف نالت جائزة بسكارا بروزو في 2011، ونالت عام 2012 جائزة سلطان العويس للرواية والقصة.
"وكأن هما واحدا لا يكفي أو كأن الهموم يستأنس يغضها ببعض فلا تنزل على الناس إلا معا".. ثلاثية غرناطة
رضوى عاشور ومريد البرغوثي
اللقاء الأول الذي شهدت عليه درجات سلم جامعة القاهرة، كان بمثابة قسم أصر الطرفان على الوفاء به حتى بعد الرحيل، وخلال سنوات الفراق والتشتت. في البداية انبهرت بالصوت، ثم لفت انتباهها الشعر الذي يتلو أبياته، وكانت تحاول هي أن تتلمس خطواتها الأولى في نسج قصائده، التي علمت لأنها لن تتمكن منها بعد أن سمعته، وتركت "الشعر لأهله".
تعرفت رضوى عاشور إلى الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، ومضت بهما السنوات حتى قررا الزواج، ورغم رفض الأب أن تتزوج ابنتهم بفلسطيني، كانت هي تصر على أن يشاركها هو حياتهما، حتى أن ابنهما الوحيد تميم البرغوثي يذكر ذلك في قصيدته "قالوا لي بتحب مصر"، فيقول:
أمي وأبويا التقوا والحر للحرة
شاعر من الضفة برغوثي واسمه مريد
قالولها ده أجنبي، مايجوزش بالمرة
قالت لهم يا عبيد اللي ملوكها عبيد
من إمتى كانت رام الله من بلاد برة
تزوجته غير عابئة، تحمل معه هم قضية بلاده "فلسطين" وتنوي أن يتشربها ابنه ويعيش أمنية العودة لها كبني وطنه، كما سقته حب الوطن الذي عاش وتعام فيه "مصر"، لكن الأحلام رغم بساطتها تواجهها دوما قسوة الواقع وشر المحيطين، فبعد أن عقد الرئيس الراحل أنور السادات اتفاقه مع إسرائيل في 1978، لم يعد مرحبابأي معارض وفلسطيني كذلك.
كانت رضوى عاشور تحمل ابنها وهو لم يتعد الخمسة أشهر بين يديها، وهي ترى زوجها مريد يتم ترحيله، لتعيش سنوات طويلة من الفراق والتشتت لأكثر من 17 عاما، يسمح خلالها بلقاءات سنوية عابرة لا تثمن ولا تغني، وتصر على أن تربي ابنها وحيدة على أن يكون مواطن عربي رافض للظلم متوحد مع الحق، نمت فيه الموهبة الشعرية كما والده، مصرة على أن يحمل هموم أوطانه ويدافع عن مبادئه.
بعد اجتماع شمل العائلة، كانت القراءة والكتابة تجمعهم، يختلفون كثيرا ويتفقون أوقات، هذا يكتب شعرا، وهناك جملة في رواية أو مقطع في أغنية، ولكن كل منهم يقدر موهبة الآخر، فرضوى ترجمت لمريد البرغوثي مختارات شعرية بعنوان "منتصف الليل وقصائد أخرى" إلى الإنجليزية في 2008، وهو المحب كتب عنها كثيرا، مرة في قصيدة تحمل اسمها "رضوى"، التي كتبها عنها خلال سنوات الجامعة، وفيها يقول:
يا ذات الوجه المنذور لأرض الدلتا
يا رضوى، يا ذات الوجه الطيب
يسري في جسمي نهر وشراع
وأنا أبحر داخل نفسي كل مساء
يحملني تياري الغامض نحو جبينك
وأنا أبحر داخل نفسي داخل شعري كل مساء
يحملني تياري الغامض نحو جبينك
أما الابن فيقول عنها في قصيدته "قالوا لي بتحب مصر":
وأمي حافظة شوارع مصر بالسنتي
تقول لمصر يا حاجة ترد يابنتي
تقولها احكي لي فتقول ابدأي أنتي
وأمي حافظة السِيَر أصل السِيَر كارها
تكتب بحبر الليالي تقوم تنوَّرها
وتقول يا حاجة إذا ما فْرِحتي وحزِنتي
وفين ما كنتي أسجل ما أرى للناس
تفضل رسايل غرام للي يقدَّرها
وفاة رضوى عاشور
جلس ابنها قرب النعش، قبل أن ترحل إلى مثواها الأخير، يحاول أن يشبع نفسه بالنظر إليها، فكانت والدته "ألوهية بين البشر" كما وصفها. صارعت رضوى عاشور المرض لسنوات، وخضعت لكثير من العمليات الجراحية، أسعدتها ثورة يناير، ولم تتمكن من المشاركة بها، ولكنها كانت مهمومة بوطنها، كان يزعجها الألم وكانت دائما راضية.
في 30 نوفمبر 2014، شعر كل طالب علمته حرفا، كل قاريء أمتعته بكلماتها أنه صار يتيما، وكأنه يفقد شخصا عزيزا من أسرته، شارك المحبون العزاء والجنازة، وصاروا يحيون ذكراها في كل عام، موجهين لها رسائل المحبة والود والامتنان، والتقدير لمشوار طويل من الصدق والتمنى والحلم والانكسار والعودة بأمل من جديد.
الكاتب
هدير حسن
الأحد ٠٩ أغسطس ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا