متعايشات «الإيدز» والمعاناة المزدوجة من «كورونا»
الأكثر مشاهدة
نساء كتب عليهن القدر أن يُخفين طبيعة مرضهن الأبدي، ويتناولن العقار الذي يحدُ من انتشار الفيروس الذي يدمر جهازهن المناعي سرًا؛ خشية من الوصمة التي تلاحقهن من الجميع، وتزامنا مع تفشي جائحة كورونا أصبحت المتعايشات مع «الإيدز» يحاربن الفقر الذي غزى حياتهن ونقص العلاج تارة، ورهاب التقاط عدوى الوباء المستجد تارة أخرى؛ خاصة عقب القرار الحكومي في 9 مارس 2020 بأن تصبح مستشفيات الحميات والصدر -المكان المخصص لاستلامِ عقارهن-، مقرا لإجراء فحوصات «كورونا» ومن ثم تحويلها لمستشفيات عزل لاستقبال مرضى كوفيد-19.
قلة الحيلة أمام تحديات «كورونا»
**إنفوجراف عن المتعايشات مع فيروس الإيدز في مصر
"الدنيا واقفة خالص ومش بعرف أجيب اللبن لبنتي" بنبرات حزينة تروى منى معاناة توفير غذاء رضيعتها عقب تفشي جائحة كورونا والتي ألقت بظلالها على الأم التي مُنعت من الرضاعة الطبيعية إثر إصابتها بفيروس نقص المناعة المكتسب، وتشترك معها آلاف الأمهات المتعايشات؛ فلم يكن أمام الأم سوى استبدال اللبن في الوقت الأشد ضيقًا بالسيرلاك "بنتي بتاخد لبن صناعي كل 3 أيام العلبة بـ120 لدرجة أن جوزي انتكس ورجع للأدمان تاني بسبب ظروفنا." فلم تُشكل التقاط عدوى كورونا لحاملات الـ«HIV» الخطر الأول في حياتهن بل الأثر الإقتصادي كان أشد فتكًا. وفي حديث آخر مع إحدى المتعايشات أكدت على أنه عقب تفشي وباء «كورونا» استسلمت بعض الأمهات المتعايشات لقرار الرضاعة الطبيعية لعدم امتلاكهن ثمن اللبن الصناعي.
عادت السيدة القاطنة بحلوانِ لمساءِ 16 يوليو 2016 يوم استلامها نتيجة تحليل الزوج الأول عقب رحلة معاناة وانتقال من طبيب لآخر؛ لمعرفة طبيعة مرضه حتى علمت في نهاية المطاف أنه يحمل فيروس العوز المناعي، إذ 25% من مرضى الـ HIV لا يعلمون إصابتهم، وقد يظل فى الجسم مدة تصل إلى 10 سنوات قبل اكتشاف الإصابة به –وفقا لمنظمة الصحة العالمية-، وعلى الفور أجرت الزوجة الفحوصات اللازمة لها ولابنتيها (3- 2) سنوات، وأتت نتائج التحاليل لتغير حياة الأم وتضعها على حافة اليأس بعدما علمت بإصابتها هي وابنتيها، واكتملت المأساة بوفاة الزوج عقب شهر من اكتشاف المرض، وأتت إليها الضربة الأقوى بفقدان نجلتها الكبرى ذات الثلاث سنوات آنذاك عقب وفاة الزوج بأسبوعِ وتعبر عما سبق: "اكتئبت وقررت الانتحار".
وماذا بعد؟ قررت السيدة ترك ابنتها الصغرى دون علاج "قررت أني مش هديها علاج لأن الموت أَرحملها بكتير من الوصمة إللي هتعيش بيها طول العمر" وعقب فترة خضعت الأم لرحلةِ العلاج هي وصغيرتها وسط هروب دائم من تساؤلات الطفلة التي تبلغ ست سنوات حول طبيعة مرضها والعلاج التي تتناوله بشكل يومي.
لم تستطع منى تحمل أعباء الحياة بمفردها فتزوجت من متعايش مع فيروس العوز المناعي وأنجبت طفلة أخرى، لتأتي تداعيات كورونا وتعصف بها؛ فأصبحت مسئولة عن توفير نفقات الأسرة وسط غياب الزوج المحجوز بمصحة لعلاج الأدمان.
وتزامنا مع تفشي الوباء توقف عقار فيروس نقص المناعة البشرية «تروفادا- Truvada» المستورد لفترةِ؛ فاضطرت السيدة الاعتماد على البديل ذات الأضرار البالغة من أجل الزوج "تعبت جدا لما غيرت العلاج بس مناعة جوزي أقل مني أديته هو العلاج المستورد إللى كان عندي".
«كورونا» و«الإيدز»..معاناة مزدوجة
مع بداية ظهور «كوفيد-19» عادت «سعاد» المتعايشة منذ 13 عامًا لنقطة الصفر مرة أخرى نتيجة ترك الزوج لعمله بإحدى محال الملابس الجاهزة وتوقف مبيعاتها من المصنوعات اليدوية التي تنتجها "الإيجار أتراكم عليا وكنت هسيب الشقة! بس أهلي ساعدوني"، لم يكن الفقر الأثر الوحيد على حياتها تزامنا مع تفشي الوباء؛ فرغم تكثيفها من استخدام المواد الوقائية والانعزال التام عن العالم الخارجي لكنها لم تفلت من الإصابة بالفيروس المستجد "جالي كورونا من جوزي عشان كان بيخرج".
لم تستطع السيدة الذهاب إلى الطبيب للعلاج من «كورونا» رغم وصولها للإصابة الخطيرة المصاحبة بضيقِ التنفس وآلام الصدر؛ نتيجة الصدمات التي تتلاقها في حالة الاعتراف بأنها حاملة لفيروسHIV "المرة إللي قلت فيها للدكتور أني حالة HIV وجايا أعمل حقن مجهري قالي إللي زيك يموتوا قدام المرضى كلهم بعدوا عني وفضحني" تتذكر الأربعينية تلك المواقف وسط بكاء متواصل نتيجة تعرضها لكافةِ أنواع النبذ من قطاع الرعاية الصحية.
عادت ذات الـ 43 لبداية (2004) تاريخ إصابتها بالـHIV، الذي نقل لها بواسطة خطأ طبيًا؛ إذ تعتبر الإجراءات الطبية الخاطئة كاستخدام الأدوات غير المعقمة أو نقل الدم الحاوي على فيروس HIV إحدى طرق نقله لمئات المتعايشات، وكانت «سعاد» من ضمن المصابات نتيجة انتقال العدوى خلال ولادة طفلها الأول بإحدى المستشفيات الحكومية فتروي: "الدكتور لابس جوانتي ويتنقل من الست ديه للست ديه وجبت الولد الأول وأتوفي"، ولم تعلم طبيعة مرضها إلا بعد مرور ثلاثة أعوام عقب فقدان طفلتها الثانية والتي توفت إثر انتقال العدوى من الأم خلال الرضاعة الطبيعية، ففي حال عدم علاج الأم المصابة، فإن حوالى 25-35% من الأطفال يكونون عرضة للعدوى أثناء الولادة، وفي حال رضاعة الطفل طبيعيًا.
ولفهم طبيعة فيروس نقص المناعة البشرية حضرت محررة الموضوع جلسة تعليمية بعنوان «الإيدز من الإصابة إلى التوعية»، بمقر منظمة «صحتى من بيئتي» المعنية بالمتعايشين/ات بمصر، وركزت على طُرق انتقال الفيروس، وتداعيات الوصمة على ارتفاع معدل الإصابة بالفيروس.
من جلسات التوعية بمرض الإيدز
وتستكمل الأم ما فعله الفيروس الأبدي بجسد الصغيرة "البنت وصل بيها لحال أن طلعلها دوريات سودة في جسمها وكنت بتمنى أنها تموت وحطولها كالونا في كل حتة في جسمها"، ورحلت الرضيعة عقب صراع استمر عامًا وثلاثة أشهر، ونتيجة لذلك دخلت السيدة حالة إنكار تام مع إصابتها بالفيروس.
وبعد فترة اكتئاب حاد، بدأت السيدة رحلة العلاج منذ 13 عامِ "في الأول عزلت نفسي عن جوزي وكنت باكل وأشرب وأغسل هدومي لوحدي." كغيرها من الآلاف المتكون لديهم صورة نمطية خاطئة حول انتقال فيروس العوز المناعي.
عاشت «سعاد» رُهاب الإصابة بكورونا؛ نظرا بأنه لم يكن أمامها سوى العلاج المنزلي وتقوية الجهاز المناعي بالوسائل الطبيعية لشهر ونصف طوال مدة الإصابة وسط مخاوف واصفة إياها:"أكتر حاجة خفت عليها هي بنتي هموت وأسيبها لمين" فعقب محاولات مستمرة لم تسطع السيدة الإنجاب ولتلبية الغريزة الفطرية فتكفلت بطفلةِ يتيمةِ التي تعد بالنسبة إليها الملاذ الأمن
«مش معايا أجيب كمامة»
تساعد أتاحة التغذية الجيّدة على تحسين أداء نظام المناعة الذي يشكل الدرع الواقي للبدن من العدوى خاصة في حالة المتعايشات مع فيروس الأيدز، ولكنها أصبحت مستحيلة لدى الغالبية العظمى منهن عقب جائحة كورونا وتداعياتها الإقتصادية، وتعد «زينب» المصابة بالـ HIV انتقالًا عبر الزوج المدمن من ضمن هؤلاء، فبعد ما كانت تنعم بحياة هادئة ووظيفة مستقرة بإحدى شركات السياحة أصبحت وحيدة تصارع من أجل توفير الغذاء "بعد ما جالي الفيروس قعدت من الشغل لأنهم بيعمللنا تحاليل فسبته من نفسي عشان عارفة أنهم هيمشوني".
لم تستطع الثلاثنية الحصول على عمل آخر، وانتقلت للعيش مع شقيقتها عقب طلاقها، لتتذوق مرارة الوصمة بشكل يومي:"أنا عيطت كتير أوي لما أختي منعت عيالها عني لدرجة أن العيال الصغيرة بتخاف مني وبيقولولي متلمسناش" رغم إخفاء السيدة طبيعة مرضها عن كافة المحيطين فلم تجد الدعم من القلةِ العارفين "أنا بخبي العلاج من الناس ولو شافوه بقلهم بتاع الكبد."
وعن سؤالها حول اتباع الإجرائات الوقائية قالت: "في عزّ كورونا مكنش معايا أجيب كمامة" فتزامنا مع تفشي الجائحة تعدد جبهات الحرب لدى «زينب» فلم تعد تمتلك ثمن القناع الواقي الذي يقلل من احتمالية إصابتها بفيروس (كوفيد -19 )، بالإضافة إلى تحمّلها كافة أشكال الإهانة للحصول على حفنة من الغذاء "مستحملة البهدلة عند أختى عشان مقعداني عندها وبتأكلني وأنا مش لاقية أي شغل" إلى جانب ذلك كانت ضمن من تم استبدال علاجهم بسبب توقف العقار المستورد عقب أزمة كورونا؛ مما أصابها بنوبات من الغثيان المستمر والأنيميا، ولم تستطع الاطمئان عما يفعلها الفيروس الذي يهاجم الجهاز المناعي بجسدها نتيجة توقف التحاليل الخاصة بمتابعة تقدم المرض "لما بسأل على التحليل بيقولولي أنه مفيش بسبب كورونا".
أمينة عجمي: المتعايشات محرومات من الخدمات الصحية
أمينة عجمي رئيس جمعية صحتي من بيئتي
في حديث مع أمينة عجمي، رئيس مجلس إدارة جمعية صحتي من بيئتي، والمعنية بتقديم الدعم لمتعايشي الإيدز، بينت أن حرمان المتعايشات من الخدمات الصحية خاصة إجراء عمليات الولادة القيصرية نتيجة تخصيص المستشفيات لعزل مرضى كورونا من أشد الصعوبات التي واجهتهن مما نتج عن ذلك اللجوء للعيادات الخاصة باهظة التكاليف، إلى جانب توقف التحاليل الدورية ونقص بعض الأدوية المستودرة بسبب توقف الطيران قائلة: "أصعب مرحلة مرينا بيها الولادة وقت كورونا بعد ما المستشفيات قفلت وبالعافية دخلنا حالة واحدة والباقي دخلناهم مستشفيات خاصة."
ووفقا لتصريحات «عجمي» تعرض 11 متعايشين/ات للإصابة بكورونا من المتعاملين/ات مع الجمعية، مؤكدة على أن السيدات لم يستطعن الذهاب للأطباء نتيجة تعرضهن للوصم والتمييز وانتهاكات حقوق الإنسان بعدم الحصول على الخدمات الصحية مقارنة بباقي فئات المجتمع، وعدم قدرتهن المادية لتكلفة العيادات الخاصة نتيجة للتداعيات الإقتصادي التي وقعت على كاهلهن بسبب الجائحة، مستكملة أن عدد كبير منهن تعرضن للطرد من منازلهن بسبب عدم دفع الإيجار إلى جانب العنف الزوجي الذي يمارس ضدهن بشكل يومي.
وفيما يتعلق بدور الجمعية مع المتعايشات بشكل عام، بينت «عجمي» أنها تقدم تدريب للمتعايشات بواسطة المشغل المجهز بمقر الجمعية على التفصيل والمشغولات اليدوية ومن ثم بيعها بالسعر التي يتناسب مع السوق لتحقيق عائد ربح، وخلال فترة كورونا ركزت الجمعية على تسهيل إجراء عمليات الولادة القيصرية للمتعايشات إلى جانب توفير الدواء الناقص.
وفي مسح جديد أجرته منظمة الصحة العالمية، أظهر أن الوصول إلى أدوية الإيدز قد تقلص إلى حد كبير نتيجة لانتشار فيروس كورونا، وأفادت أن 73 دولة معرضة لخطر نفاد الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية.
كما كشف تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة المشترك لمكافحة الإيدز UNAIDS)) بأنه لن تتحقق أهداف مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية المحددة لعام 2020؛ نتيجة التراجع الكبير في التقدم العلمي بمواجهة مرض الـ HIV، بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد، الذي أوقف جميع البحوث العلمية المهمة، ويمكن أن تتراجع الاستجابة العالمية للإيدز لمدة 10 سنوات أو أكثر.
وبحسب التقرير، يمكن أن يؤدي نقص علاج فيروس المناعة البشرية لمدة ستة أشهر إلى وفاة أكثر من نصف مليون في إفريقيا بين عامي 2020 و2021، مما يعيد المنطقة إلى مستويات وفيات الإيدز لعام 2008.
**تم تغيير أسماء الشخصيات للحفاظ على خصوصيتهن
الكاتب
سمر حسن
الثلاثاء ١٠ نوفمبر ٢٠٢٠
التعليقات
لا يوجد تعليقات
اترك تعليقا